مدونة عبدالحكيم الأنيس


الرفق بالحيوان في الدين والتراث (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


12/12/2024 القراءات: 219  


وقال الوزير نظام المُلك الطُّوسي (ت: 485) في «سياست نامه = سير الملوك» يعظ سلطانه (ص: 189-190):
«كان في مدينة مرو الرُّوذ رجلٌ يُدعى الحاج الرئيس، وكان محتشمًا مشهورًا وذا نعمة وضياع ومستغلات كثيرة، ولم يكن بخراسان في زمانه مَن هو أشهر منه وأقدر، خدم السلطانين محمودًا ومسعودًا وقد كنا رأيناه لقد زاول في فتوته وشبابه ضروب الاستبداد والوحشية والتعذيب والشدة في تحصيل الأموال وابتزازها والمطالبة بها وتشتيت شمل العائلات، فلم يكن ثمة أقسى وأكثر طيشًا واستخفافًا منه غير أنه صحا من سباته في نهاية الأمر فكف عن التسلط على الناس وإيذائهم وتحوّل إلى فعل الخير، من مثل مواساة الفقراء، وإنشاء القناطر ومحطات الإستراحة على الطرقات، ثم حرَّر كثيرًا من العبيد، وسدد ديون المفلسين والمعدمين، وكسا اليتامى وأعان الحجّاج والغزاة، وبنى مسجدًا جامعًا في مدينته، كما أنشأ مسجدًا جامعًا عظيمًا بنيسابور، وبعد أن قدم كثيرًا من أعمال الخير مضى لأداء فريضة الحج في أيام الأمير جغري رحمه الله.
ولما وصل إلى بغداد أقام بها حوالي شهر، وفي تلك الأثناء خرجَ من المنزل يومًا فرأى في ممرٍّ بالسوق كلبًا شديد الجرَب وقد تساقط شعرُه كلُّه عن جسمه، وأعياه الألمُ وأقعده، تألمَ الرجلُ لحال الكلب وقال: إنه ذو روحٍ أيضًا ومن مخلوقات الله عز وجل. ثم قال لخادم له: اذهب وأحضرْ منوَي خبز ورسنًا. ووقف في مكانه إلى أن جاءه الخادم بما أراد، فأخذ يفتت الخبز بيده ويلقي به أمام الكلب إلى أن أشبعه وأمنه وآنذاك وضع الرسنَ في عنقه وسلمه إلى الخادم وقال: خذه إلى البيت الذي ننزل فيه. وعاد من السوق فورًا، ولما وصل إلى البيت أمر بشراء ثلاثة منوات دهن وإذابتها على النار وإتيانه بها حالًا، ثم تناول قضيبًا خشبيًّا لف على رأسه قطعة قماش قديمة وصوفًا ونهض من مكانه واقترب من الكلب وأخذ يغط القضيب بالوعاء الذي فيه الدهنُ المذابُ ويدهنُ جلد الكلب بيده إلى أن أتى عليه كله، ثم قال لخادم له: لست بأكثر وقار مني، ليس بعائبي ما قمتُ به وينبغي ألا يعيبك، وأنت خادمي أيضًا أريدك أن تدق مسمارًا في الحائط تربط به الكلب، وأن تقدم له منوي خبز يوميًّا الأول صباحًا والآخر مساء، وأن تدهن جلده بالدهن المذاب الحار مرتين في اليوم، وتطعمه ما يتبقى على السفرة من العظم وفتات الخبز إلى أن تتحسن حاله. وشرع الخادمُ بتنفيذ ما أمره به سيده وبعد أسبوعين إذا الكلب ينسلخ عنه الجرَب وينبت الشعر في جلده ويسمن جيدًا وتتحسن حاله بحيث لم يعد سهلًا إخراجُه حتى بالعصا من ذلك البيت.
ومضى الحاج الرئيس بالقافلة فأدى فريضة الحج، وأنفق في تلك الطريق مالًا كثيرًا، ثم عاد إلى مرو الروذ التي توفي فيها بعد سنوات.
وبعد انقضاء مدة على وفاته رآه احد الزهاد في المنام على براق، والحور والغلمان من خلفه وأمامه ومن على يمينه ويساره يسوقونه ببطء فرحين ضاحكين في روضة من رياض الجنة فهرع نحوه وسلَّم عليه، فما كان منه إلا أن شد إليه عناق البراق، وردَّ على الزاهد السلام، فسأله الزاهد: يا فلان لقد كنت في بدء حياتك رجلًا مؤذيًا للناس غير رحيم بهم متطولًا عليهم لكنك لما أفقتَ من سباتك كففتَ عن إيذائهم وعدلتَ عن سيرتك الأولى حتى إن ما قمت به من عمل الخير وبذل الصدقات وإنفاق الأموال على المستحقين لم يقم به أحد فضلًا عن أدائك فريضة الحج، قل لي: بأي عمل بلغتَ الدرجة التي أنت فيها الآن؟
فقال: أيها الزاهد لقد عجبتُ في أمر الله تعالى، ومن الأفضل أن تعتبر أنت أيضًا ولا تتكىء على الطاعة وتغتر بالعبادة كثيرًا. اعلمْ أن مكاني كان معدًّا في جهنم؛ للمعاصي التي كنت أرتكبها في شبابي، وأن لم تكن ثمة فائدة لما قدمتُ من طاعة وأنفقتُ من خيرات بعد ذلك وأن كل صلاتي وصومي قد رُميت في وجهي وأنا في النزع الأخير وأن الطاعات والصدقات والخيرات والمساجد والماوي والجسور وأداء فريضة الحج ذهبتْ كلها هباء منثورًا وأن اليأس بلغ بي حدًّا قطعتُ معه الأمل في الجنة، وأيقنت أن لا بد من عذاب النار، والأصوات تتهادى إلى سمعي أن لقد كنتَ كلبًا من كلاب الدنيا، لكننا غفرنا لك ومحونا عنك جميع معاصيك فأدخلناك الجنة وحرَّمنا عليك النار بإحسانك إلى كلبٍ خلعتَ له عنك رداء الكبر ورحمته وترفقت به. ثم رأيتُ ملائك الرحمة أتين مسرعين كالبرق فخلصوني من أيدي ملائكة العذاب ومضوا بي إلى الجنة، إن ذلك العمل هو الوحيد الذي انتشلني من بين طاعاتي كلها من حال الشقاء تلك".
وهنا قال الوزير نظام الملك: "لقد ذكرتُ هذه الحكاية ليَعلم سيدُ العالم -خلد الله ملكه- أن الإحسان خصلة جيدة حميدة، ففي إحسان موسى عليه السلام إلى الشاة، والحاج الرئيس إلى الكلب نالا ما نالا مِن درجات في الدنيا والآخرة، من هنا يُعرف إذن ثواب الله عز وجل لمن يُحسن إلى مسلمٍ معوزٍ ويأخذ بيده».
وقال تقي الدين الواسطي: "كان في أم عَبيدة كلبٌ قد أصابه جرَبٌ، فانسلخ جلدُه وعمي وصار مستقذرًا يصعبُ على الناس أن ينظروا إليه، فأخرج وطُرح خارج أم عبيدة، فعرف سيدي أحمد [الرفاعي] -قدَّس اللهُ روحه- حالَ الكلب، فجعل يتردّدُ إليه سرًّا ويحملُ معه دهنًا ودواء يطليه بهما، وخبزًا يطعمه وماءً يسقيه، وعمل له مظلة تظله من الشمس، ولم يزل يتردد إليه كذلك حتى زال عنه الجربُ وبرأ، فحمى له ماءً وحمله إليه، ثم غسله بذلك الماء. وكان يتعاهده أيضًا بعد الشفاء بالخبز والماء" .
وكان الإمام أبو الفتح ابن سيد الناس (ت: 734) إذا رأى أحدًا يضربُ كلبًا أو يؤذيه يخاصمُه وينهرُه، ويقول له: لم تفعلُ هذا؟ أمَا هو ‌شريككَ ‌في ‌الحيوانية؟
وذكر القاضي أبو ذر الحنفي البُخاري (ت: ؟) فى «تفسيره»: ‌الكلابُ ‌ثلاثةٌ: كلبٌ يضرّ، وهو الذي أمرنا بقتله، وكلبٌ ينفع ولا يضر فيجوز بيعه وإمساكه، وكلبٌ لا ينفع ولا يضرّ، فلا يُتعرّضُ له .
وقال الفقيه محمد بن عبداللطيف بن عبدالعزيز بن ملَك: «ويُكره ‌تعليم ‌البازي ‌بالطير الحي، يأخذُه فيعذبه؛ لأنا نُهينا عن تعذيب الحيوان إذا لم يتعلق به غرضٌ صحيحٌ، ويُباح بالمذبوح؛ لانعدام التعذيب» .
يتبع


الحيوان. الرفق. الرحمة.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع