الرفق بالحيوان في الدين والتراث (1)
د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees
12/12/2024 القراءات: 215
هذا موضوعٌ له في ديننا موضعٌ كبير، وهذه شذراتٌ كنتُ أقيّدُها أثناء النظر في مصادر العلم ومراجعه، فهي ليستْ على سبيل الاستيعاب، فإن ذلك غير مقدور، وكنتُ كتبتُ "في بيتنا هرة" قصرتُه على ما يتعلق بها فلا أعيده هنا. وقد يُقال: إن في الغربيين رفقًا كبيرًا في ذلك، والجواب: أن رفقهم غير رفقنا، فهم يرفقون لأنفسهم أو للطبيعة أو للقانون، ونحن نرفق لله.
والذي جعلني ألتفتُ إلى إخراج هذا المقال اليوم ما شاع وذاع من أخبار الأذى غير المتصور بحق الإنسان، في المعتقلات السرية والعلنية، والله المستعان.
قبس من السنة النبوية الشريفة:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عُذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار. قال: فقال -والله أعلم-: لا أنتِ أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنتِ أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض. رواه البخاري (2236)، ومسلم (2242).
وروى مسلم (1959) «أخبرني أبو الزبير؛ أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبرًا.
وعن سهل ابن الحنظلية الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فابتُغِي فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحًا، وكلوها سمانًا...". رواه الإمام أحمد في المسند (17625) والطبراني، وابن حِبان بسند صحيح.
وأخرج أبو داود (5157) من حديث أبي ذر: «ولا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ». قال الزيلعي بعد أن استدل به على النهي عن تعذيب الحيوان: وسندُه صحيح .
والأحاديث في جزاء مَنْ سقى كلبًا معروفة.
***
نقول مِن أقوال العلماء في ذلك:
قال الإمام النووي في شرح حديث العُرَنيين، عند جملة: "يَستسقون فلا يُسقون":
«ذُكر في هذا الحديث الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام، وحينئذ لا يبقى لهم حرمةٌ في سقي الماء ولا غيره، وقد قال أصحابنا: لا يجوز لمَنْ معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتدٍ يخاف الموت من العطش ويتيمم. ولو كان ذميًّا أو بهيمةً وجب سقيُه ولم يجز الوضوءُ به حينئذ. والله أعلم» .
وقال في شرح حديث «إن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته":
"أمَا القِتلة فبكسر القاف وهي الهيئة والحالة.
وأمَا قوله صلى الله عليه وسلم: "فأحسنوا الذبح" فوقع في كثير من النسخ أو أكثرها: "فأحسنوا الذَّبح" بفتح الذال بغيرها، وفي بعضها: الذِّبحة بكسر الذال وبالهاء، كالقتلة، وهي الهيئة والحالة أيضًا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وليُحد" هو بضم الياء يقال: أحدَّ السكين وحددها واستحدها بمعنىً.
"وليُرح ذبيحته" بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك. ويُستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدةً بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فأحسنوا القِتلة" عامٌّ في كلِّ قتيل من الذبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدٍّ، ونحو ذلك.
وهذا الحديثُ من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام والله أعلم» .
***
أخبار السلف والعلماء ولطائفهم في ذلك:
الأخبار والطرائف في ذلك كثيرةٌ، وهذه طائفةٌ منها:
عن مالك بن دينار رحمه الله قال: مر عيسى عليه السلام والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا! فقال عيسى عليه السلام: ما أشد بياضَ أسنانه! يعظهم وينهاهم عن الغِيبة .
وعن معاوية بن قرة قال: كان لأبي الدرداء جَمَلٌ يُقال له دمون، فكان إذا أعاره قال: هو يحملُ كذا وكذا، فلا تحملوا عليه إلا كذا وكذا، فلما كان عند انقضاء هلاكه، قال: دمون، لا تخاصمني عند ربي، فإني كنتُ لا أحملك إلا طاقتك .
وعن الحسن، قال: كان الرجلُ في الجاهلية يقول: واللهِ لا يُؤذى كلب جاري .
وقال سعيد بن شيبان: أخبرني مَنْ رأى عدي بن حاتم يفت الخبز للنمل. وزاد في رواية أخرى قوله: إنهنَّ جاراتٌ ولهنَّ حقٌّ .
وقال إبراهيم بن سعد: جئتُ صالح بن كسيان في منزله فوجدتُّه يكسر لهرةٍ له، ليطعمها، ثم يفتتُ لحماماتٍ له أو لحمامٍ له يطعمه .
وعن الأوزاعي أن التابعي القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي (توفي في خلافة عمر بن عبدالعزيز): كره صيد الطير أيام فراخه .
وقال ابن رجب الحنبلي: «مِنْ أعجب ما وَرَدَ في عاشوراء أنه كان يَصُومُه الوحشُ والهَوامُّ.
وقد رُوي مرفوعًا أن الصُّرَدَ أوَّلُ طير صامَ عاشوراءَ. خرجَهُ الخطيبُ في "تاريخه"، وإسنادُه غريبٌ. وقد رُوي ذلك عن أبي هريرةَ.
ورُوي عن فتحِ بن شَخْرَف، قال: كنْتُ أفتُّ للنَّمْلِ الخبزَ كلَّ يومٍ، فلمَّا كانَ يومُ عاشوراءَ لم يأكلوه.
ورُوي عن القادرِ باللهِ الخليفةِ العباسي أنَّه جرى له مثلُ ذلك وأنه عَجبَ منه، فسأل أبا الحسن القزويني الزَّاهدَ، فذكر له أن يومَ عاشوراء تصُومُه النَّمْلُ» .
وقال ابنُ الجوزي في ترجمة العالم الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد (ت: 385):
«استَدعى يومًا شرابًا فجِيء بقدح، فلما أراد أنْ يشرب قال له بعضُ خواصّه: لا تشربه فإنه مسموم، فقال: وما الشاهد على صحة قولك؟ قال: أنْ تجربه على مَن أعطاك إياه، قال لا أستحل ذلك، قال: فجرِّبه على دجاجة، قال: إنَّ التمثيل بالحيوان لا يجوز، فرد القدح وأمر بصبِّ ما فيه وقال للغلام: لا تدخلْ داري. وأمر بإفراد جراية عليه» . «وقال: لا يدفع اليقين بالشك، والعقوبةُ بقطع الرزق نذالةٌ» .
وقال السبكي في ترجمة الإمام أبي إسحاق الشيرازي (ت: 476):
«كان يمشي بعضُ أصحابه معه في طريق فعرضَ لهما كلبٌ فقال الفقيهُ لذلك الكلب: اخسأ، وزجرَه، فنهاه الشيخُ وقال: لم طردتَّه عن الطريق، أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟» .
يتبع
الحيوان. الرفق. الرحمة.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة