مدونة محمد كريم الساعدي


أفلاطون وجماليات عالم المثل/ الجزء الثالث

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


03/02/2023 القراءات: 563  


يشرح (أفلاطون) في جمهوريته المثالية في الباب العاشر الفن والمحاكاة وعالم المثل ، وينقد كل من يخرج عن سياقاته الجمالية التي تبناها في هذا الباب ، و " يتحدث عن محبي النّظر والسّمع كيف يعجبون بالجميل من الأصوات والألوان والصور ، ولكن يؤكد على عدم فهمهم كنه الجمال فيضرب مثالاً بالمأساة عند (هوميروس) وينتقده وينتقد سامعيه لأنهم يؤمنون بما يقول ، فهو بنظرهم يعرف كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة ، بل والاشياء الإلهية الى جانب معرفته لكل الفنون ، لكنهم خدعوا لأن ما يقدمه إنما أشباح لا حقائق ، وكما نعلم أن الرجال بآثارها العملية ، لذلك فإن (هوميروس) وغيره من الشعراء مقلدون نسخوا صور خيالية في كل ما نظموا ، فلم يلمسوا الحقيقة ومن جملة ذلك نظمهم في الفضيلة " (8)، وهذا النقد للشعراء ومن ضمنهم الشاعر الملحمي (هوميروس) لم يأتي من طبيعة صياغات العمل الفني الشعري لديهم ، بل أن الصيغة التي قدمها (أفلاطون) للفن ومحاكاته لا تنطبق على هذه الإعمال الشعرية بمختلف أنواعها وأجناسها ، كالشعر الملحمي ، أو التمثيلي ، أو الوجداني ، كون الشعراء لا يطلبون من وراء أشعارهم الحقيقة ، بل هم يبحثون عن الخيال في صورهم الشعرية ، والخيال يبعد الشاعر والمتلقي معاً عن الحقيقة التي هي بالأصل نابعة من الحق والخير والجمال ، فالجمال لا يأتي الإ من خلال عالم المُثل ، وشعر (هوميروس) الملحمي يشبهه (أفلاطون) بالأشباح لا بالحقائق المرجوة التي يطلبها في عالمه المثالي ، وهذه الحقيقة التي يسعى اليها (أفلاطون) في فلسفته متوفرة في نوع آخر من الفنون وهي الموسيقى ، ونظريته " في الموسيقى مبنية على التراث الفيثاغوري ، إذ ترى أن في الموسيقى طريقاً لتطهير النفس وتهذيبها ، ويمكن علاجها النفسي. وقد بين (أفلاطون) عناصر مكونات الموسيقى الثلاث وهي : اللفظ ، الائتلاف ، والايقاع ، وربط بينها وبين الحقيقة التي تحاكيها في نفس الأنسان ، ويرى أن الموسيقى يجب أن تعبر عن الجمال والحقيقة في صورة سهلة حتى يقنع بها العقل . ويجب أن تكون غايتها وهدفها الجمال لا أن تتجه الى بعث اللذة الاستطيقية . ولها هدف أسمى من ذلك هو التأثير على النفس بحيث تكسبها ائتلافاً من أجل تحقيق الخير " (9).
إنَّ اللذة الجمالية التي تقوم على أمتاع الفرد دون أن تكسب النفس البشرية طاقة من أجل تحقيق الخير ، هذه اللذة مرفوضة كون أنها تبعد الأنسان عن الجمال الحقيقي ، وهذا الجمال القائم على بعث الخير في النفس لا جذبها نحو متعة حية تنتهي بهذه النفس الى عوالم أخرى غير عالم الجمال المثل الأفلاطونية ، ويكون لطبيعة ونوعية الفن علاقة في الأثر النفسي نحو الخير والحق والجمال . ومن جهة ثاني يربط (أفلاطون) في كتابه (الثيئيتتس) بين الأحرف الأبجدية والموسيقى من خلال (برهان اختباري الأحرف الأبجدية والموسيقى) الذي يريد أن يبرهن أن الموسيقى تعبر عن الصدق في الأمور الواقعية على وفق مبدأ أهميتها في التعلم ، وهذا المبدأ الجمالي يستخدمه (أفلاطون) في هذا المجال.
يعتقد (أفلاطون ) بمدى أهمية الموسيقى في إثبات البرهان الاختياري كونها تدخل في تبيان حقائق عن طبيعة النفس في التعلم والتفريق بين الأشياء ، كما المثال الذي ضربه في المحاورة بعازف القيثارة والتعلم الكامل من خلال القدرة النفسية على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر ، وهذا التتبع يعطي الاعتراف بإن هذه الانغام تعود لعناصر الموسيقى عن غيرها من العناصر للوصول الى المبدأ الجمالي الأفلاطوني المتمثل بمعرفة الحقيقة عن طريق هذا الفن . وهنا نعود الى المقارنة بين الشعر والموسيقى لدى (أفلاطون) ، بالتساؤلات الأتية : لماذا أن الشعر لا يوصل النفس الى الخير والحق لدى (أفلاطون) ؟ : يعتقد (أفلاطون)بأنه يقربها أكثر الى الصور الخيالية الخداعة ، ويبعدها عن الجمال الحقيقي . بينما يعتقد أن الموسيقى تأخذ النفس البشرية الى الجمال وتكسبها ائتلاف يقودها اليه . كما يعتقد أن للمحاكاة علاقة أيضاً في إبعاد النفس عن الحق والخير والجمال كما هو في فن التصوير، فالتصوير عند (أفلاطون) " يرمي الى تقليد الطبيعة الظاهرة ، وهو مخادع لأنه يصف الواقع ويحاكيه ولا يقدم ابتكاراً ، ويأخذ بفن المنظور والخداع البصري والبراعة من استخدام الألوان ، فالأشياء كما نعلم تظهر لنا مختلفة الحجم لبعدها عن عيوننا كأنها محدبة ، أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرض له العين ، وهذا النقص الطبيعي يستخدمه الرسم لمصلحته فينقل الفنان ما يراه هو ، وبنظر (أفلاطون) الرسم واقعي يعكس ما يراه ويقلّد دون التعمق بالمعاني الأخلاقية والمثالية "(11) التي من اللازم أن يصل اليها الفنان ، فالتصوير عند (أفلاطون) من الفنون التي تبعد المحاكي من حيث الممارسة عن الحق والجمال والخير ، بسبب عدم التعمق بالمعاني الأخلاقية المثالية ، فالرسم في طبيعته يغالط في طريقة المحاكاة الأفلاطونية للمثل حسب طبيعة المحاكاة الأولى ، أي حسب النوع الأول من الفن الذي يكون في طبيعته ينتمي الى الرؤية السطحية ، لا الى المحاكاة ذات البصيرة والاستنارة للوصول الى ما هو أعمق من المظاهر الخادعة ، فالعين قد تكون من الوسائل المخدوعة بسبب الخطأ اللوني الذي تأخذه من الطبيعة ،أو من المشاهدات المتحركة للأشياء ، فالخداع قد يكون من ركائز الرؤية عند الرسام الذي ينقل الأشياء دون تعمق حسب المحاكاة السطحية التي لا يريدها (أفلاطون) في مثله ، ويبحث عن التعمق بالمعاني للوصول الى عالم المُثل ذات البعد الجمالي والأخلاقي والمثالي ، ومن الصعب أن يتوفر في فنون التصوير ومنها الرسم والنحت أيضاً هذا الصدق الجمالي الذي يبتغيه.
إذن ، فالجمال الأفلاطوني ما هو إلا فكرة تتكون " بإدراج ما هو مشترك في الأشياء الجميلة واستبعاد النقاط التي تختلف عن الجمال وهذا هو بالضبط ما نعنيه بالمفهوم ، ولذلك تقوم نظرية (أفلاطون) على أن المفاهيم هي حقائق موضوعية ويطلق عليها (...) المُثل وتفسر جوابه الفلسفي على أنها تلك الحقيقة المطلقة والقصوى التي يمكن أن تفسر كل الأشياء الأخرى .


جمال ، المثل


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع