أزمة النقد ونقد الأزمة ابن الأثير وقضية التناص1
ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal
05/02/2024 القراءات: 415
عَود على بَدء، وتكملة لما بدأناه من قضايا نقد الأزمة، وأزمة النقد، وخصوصًا في تقديم قراءة جديدة للمنجز النقدي العربي في ظل التباس المصطلحات والمفاهيم، والخلط الواضح والالتفاف على منجز الأمة النقدي، وما قدمَتْه في هذا الصدد، كذلك طمس ذلك كله، واعتباره من ركام الماضي، في حين أن المنجز الغربي المسيطر حاليا على الساحات النقدية العربية والغربية هو اجترار لمقولات عربية خالدة في تراثنا، أو إعادة انتاج لها، أو الانقضاض عليها من خلال عمليات الاستشراق أو غير ذلك.
كما أنَّ مقولة تأثر النقاد العرب القدماء أمثال ابن الأثير بأرسطو، قد تكون ناتجة عن تمرير أقوالٍ يريد أصحابها الاستناد إلى مقولات الغرب في الفكر والمعرفة، فيريد أن يعطي لنفسه شرعية وأمتدادًا زمنيًّا في النقل عن الأخر .
إذا وضحت لَدينا الرؤية في هذه القضية فإن ابن الأثير قدَّم عدة مقولات جديدة في العملية النقدية، تكلمنا في المقالة السابقة عن قضية الوحدة العضوية في العمل الأدبي – نثرًا وشعرًا- وأنه صاحب رؤية إبداعية وجديدة، اتكأ عليها المعاصرون في تقدم أفكار ونظريات نقدية جديدة، واليوم نحن نتناول قضية أخرى في مسار الإبداع النقدي، وهي قضية السرقات الأدبية أو ما يعرف حديثًا بقضية التناص، أوتفاعل النصوص، وغير ذلك من التسميات التي تدل على الانتحال الأدبي.
فإذا نظرنا إلى قضية السرقات الأدبية فإن ابن الاثير يعتبرها من باب المدائح والمحاسن لدى الكاتب، فهي من باب اتحاد الطرق واختلاف المقصد ، ومعناها أن يسير الشاعرانِ في طريق واحدة فتخرج بهم إلى طريقين مختلفتين، ومن ذلك يظهر فضل أحدهما على الآخر, وهذا ما يمكن أن نطلق عليه قضية فاعلية النصوص " التناص حاليًا " . (التناص وفاعلية الخطاب).
هذه هي رؤية ابن الأثير من مئات السنين، وقبل الغرب بقرون، ودعونا نتحدث وَفق الإطار التقليدي لهذه القضية، فننظر للتناص، ونقول :
بداية، لست معنيًا بتقسيمات الأدباء للتناص سواء أكان دينيًّا أم كان تاريخيًّا أو غير ذلك، أكثر من اعتباره ظاهرة فنية تدل على التأثير والتأثر، إذ إنها كاشفة بوضوح عن ذلك المتأثر، ملقية بظلال التجارب السابقة على كينونته، وبخاصة إذا نظرنا إلى التناص على أنه ناتج عن إرادة حقيقة أكثر من كونه احتذاء أو سرقة أدبية، أو غير ذلك من القضايا الأدبية .، فهذه قضايا نتجت بعد ذلك.
ثانيا: التناص في التأسيس اللُّغوي يؤكد ويؤيد ما ذهبنا إليه .
قال ابن منظور للمعنى اللغوي للتناص ويرى أن يعادل الاتصال بين الأشياء، فيقول: يقال: هذه الفلاة تناصي أرض كذا وتناصيها أي تتصل بها"( ).
كما أن " (انتص) الشيء ارتفع واستوى واستقام، يقال انتص السنام والعروس ونحوها قعدت على المنصة (تناص) القوم ازدحموا"( ).
ولعل كلام "ابن منظور" أقرب إلى المعنى المراد، إذ إنه يؤكد على الاتصال بين الأشياء، والتناص هو اتصال بين الأعمال سواء كانت أدبية أو فكرية أو غير ذلك، إلا أنه عرف في الأدب أكثر من غيره، ويتبين ذلك في المعنى الاصطلاحي للتناص.
ثالثًا: المعنى الاصطلاحي يدعم اختيارنا ونقاشنا حول القضية .
ففيه ترى جوليا كريستيفا : أن النص عبارة عن لوحة فُسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرُّب وتحويل لنصوص أخرى"( ). وهذا الكلام ليس جديدًا على منجزنا الأدبي والنقدي، فقد تكلم عنه ابن الأثير كما ذكرنا سابقًا، وطبقها الشعراء في الأخذ والأحتذاء وغيرها من المصطلحات التي تخدم ذات الفكرة .
وهي بذلك تؤكد على مشروعية التناص، وأن النصوص تأخذ من بعضها البعض، كما أن " ظهور مفهوم التناص في الدراسات النقدية الحديثة بمثابة الرد على المفاهيم البنيوية التي أكدت انغلاق النص على نفسه بحجة اكتفائه بذاته وأنه قائم بنفسه، فجاءت الدراسات التي تنتمي إلى ما بعد البنيوية، ومنها التفكيكية التي عدت النص بنية من الفجوات والشروخ التي مهدت بدورها إلى نقد نظرية التلقي في الأدب والفن، ثم جاء نقاد التناص وعدوا النص كتلة من النصوص المستحضرة من هنا وهناك، إذ إن هذه الدراسات والمناهج انصبت على دحض أسطورة انغلاق النص واستقلاله المزعوم، وفي هذا الإطار ظهر مفهوم التناص على يد الباحثة (جوليا كريستيفا) التي طورت هذا المفهوم عن مفهوم الحوارية أو الصوت المتعدد الذي اقترحه الناقد والمفكر الروسي (ميخائيل باختين) "( ). وهؤلاء جميعًا ليس لهم من القضية إلا تطوير المصطلح فقط، وإنما الفضل والتأسيس الأول لها جاء عند ابن الأثير .
رابعًا : هذا، إذا نظرنا إلى التناص باعتباره ظاهرة يؤرَخ لها؛ لكن إذا نظرنا إلى التناص باعتباره ظاهرة محل دراسة وتحليل، فإن ذلك يقودنا إلى قضية النص الغائب.
والنص الغائب مصطلح نقدي جديد، ظهر في ظل الاتجاهات النقدية الجديدة، ويعنى أن العمل الأدبي يُدرك في علاقته بالأعمال الأخرى.
فالأدب ينمو في عالم مليء بكلمات الآخرين. و(النص) تشكيل لنصوص سابقة ومعاصرة أُعيدت صياغتها بشكل جديد، وليست هنالك حدود بين نص وآخر؛ وإنما يأخذ النصُّ من نصوص أخرى ويعطيها، في آن واحد"( ).
و"ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل"( ) .
ومع "تداول مصطلح التناص في مجالس النقد العربي وكتاباته تنامت امتدادات التناص الدلالية ... واستنزفه خلطًا والتباسًا وتشويشًا ولاسيما بعد اقتران مفهومه بمدونات النقد العربي القديم كالسرقة، والمعارضة، والمناقصة، التشاكل، والاشتراك، المحاكاة، الإعارة، والسطو .. وغيرها من المصطلحات المأثورة في التراث النقدي العربي "( ).
ومن ذلك فإن فكرة التناص من حيث المضمون وجدت في التراث العربي القديم، أما من حيث المصطلح، فلم تُعرف إلا في العصر الحديث على يد جوليا كريستيفا.
التناص ...
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع