ما خفي أصله:تشميت العاطس بين الجاهليين والبدائيين/قراءة أنثرولغوية
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
28/01/2025 القراءات: 94
في معجم مقاييس اللغة لابن فارس،كنت أراجع مادة(ش م ت)لأرى كيف انقلبت هذه المادة على نفسها حين جمعت بين الدعاء والشماتة، رأيت ابن فارس يرتبك إزاءها و يشير الى (خفاء أصل) تحولها من معنى الشماتة الى دعاء يُقَابَل به العاطس، ولهذا قال:((وهو عندي من الشيء الذي خفي علمه،ولعلّه كان يُعلم قديمًا ثمّ ذهب بذهاب أهله))(انظر النص في المقاييس) ،لكني كنت على يقين من أنّ ابن فارس لم يعنِ خفاء أصل الكلمة بقدر ما كان يعني خفاء أصل التشميت، فبينما كان العطاس في الجاهلية علامة شؤم يجلب الشماتة لصاحبه، فإذا به في الاسلام أصل ربانيّ يوجِب حدوثُه أن يحمد العبد ربّه،وعلى من سمعه أن يدعو له بالرحمة فيردف العاطس بأن يدعو له بالهداية وفق صيغة أو صيغ قولية معينة،فلو تحدث ابن فارس عن هذا التحول لكلّفه ذلك استطرادًا هو في غنى عنه،فما يهمّ ابن فارس في مقاييسه الأصل الاشتقاقي لا الأصل الثقافي!.
إنّ سكوت ابن فارس عن أصل هذا التحول قصور واضح منه،ومثل هذا التقصير يؤاخذ عليه أهل اللغة في أحايين كثيرة ،نظرًا لاكتفائهم ب الأشكال والصيغ اللغوية بعيدا عن مظاهر الثقافة،فعلى أقلّ تقدير أنّ العودة الى مظاهر الثقافة و تسييق الكلمات و الصيغ اللغوية باستدعاء مناسباتها وظروفها التاريخية قد تعين على فهم التطور اللغوي بشكل أفضل، لأن التغيرات الحادّة التي تطرأ على الصيغ والكلمات تؤذِن بوجود تحولات ثقافية اجتماعية حادة كذلك.
(شَمِتَ و شَمَّتَ) بينهما تضاد بفعل التضعيف الذي أفاد الإزالة والسلب عبر صيغة(فَعَّل) ،وهذا بدوره انعكاس للتحول الفكري الذي طرأ على العالم مع قدوم الإسلام ،فانعكس أثره في اللغة ،إذ ليس(تشميت أو تسميت)العاطس إلا تصحيحًا ل(الشماتة)به، ففي الجاهلية اقترن العطاس بالتَّثاؤب،نعم كان التثاؤب والعطاس في الجاهلية نذيري شؤم،و جديرَين بأن يجلبا الشماتة لصاحبهما،وقد تحدّث مؤرخو العرب و المستشرقون عن هذه العادة في مواطن كثيرة، ومن يراجع مادة(عطس) في المعجم العربي وأمّات الكتب اللغوية يجد كيف أحيط في الجاهلية بالشؤم والنوازل المهلكة، فمن معاني (عطس) الموت،فقولهم: (عَطَسَ الرجل)معناه مات،ويقولون للرجل إِذا مات: (عَطَسَتْ به اللُّجَمُ)واللُّجْمة ما تطيَّرْت منه.(راجع المادة في لسان العرب)
أمّا في الإسلام فقد تصحّحتْ النظرة إلى العطاس الذي ينبغي أن يُواجه من الآخرين بمشاعر إيجابية بعد أن أزيل اللبس عنه،بدلًا من مواجهته بمشاعر سلبية كما كان عند الجاهليين،و ممّا ورد في شأنه قوله صلى الله عليه وسلم:((إنّ الله يحبّ العطاس،ويكره التثاؤب،فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحقّ على كلّ مسلمٍ سمعه أنٌ يُشَمّته،وأمَّأ التثاؤب فإنّما هو من الشيطان،فليردّه ما استطاع،فإذا قال:ها،ضحك منه الشيطان))[البخاري:برقم ٦٢٢٣].
وحين تراجع الكتاب المقدس وأدبيات أهل الكتاب ترى أنّ العطاس مسرّة و أمارة على الحياة على ما ورد_لا على سبيل الحصر_ في سفر الملوك قصة إحياء اليشع الصبِيَّ:(ثم عاد و تمشى في البيت تارة الى هنا وَتارَة إِلَى هنَاك، وَصعد وَتمَددَ عليه فَعطس الصبِي سبع مَرات، ثُم فَتَحَ الصبِي عينيه) (سفر الملوك الثاني ٤: ٣٥).
تشميت العاطس أصل ربانيّ ،والنظر إليه على أنّه عادة أمرٌ فيه قفز على الحقائق،فالعطاس شأن فسلجي لله فيه شؤون ،إلّا أنّ الأهواء حرّفته و زادت عليه أشياء أخرى حتى غدت عادة أو تُرّهة عند الجاهليين والثقافات المتأخرة الأخرى،ثمّ إنّ آثار تلك الأهواء لا يزال لها حضور في عالمنا اليوم،فممّا لاحظته شخصيًّا لدى كبار السنّ أنّ أحدهم إذا عزم الخروج من البيت وعطس عطسة واحدة أرجأ خروجه وهو ما ينفكّ يتلاعب بأنفه إلى أن يردفها بعطسة ثانية،و إلا استعان بالبخور أو بشيء من التوابل،ومن يراقب مذاهب الناس في شأن العطاس والتشميت يجد أمورًا كثيرة تحرّض على دراستها في حقول معرفية كثيرة.
وعلى غرار ابن فارس يقرّ عالم الإنسان البريطاني إدوارد تايلر ب(خفاء)أصل التشميت ولكن من جانب ثقافي لا لغويّ ،فقد كان تايلر يريد تأكيد نظريته في الرواسب والبقايا بمزيد من الشواهد والأمثلة الحية المتعلقة بالأفكار والعادات المتوارثة التي لا يزال المجتمع الأوربي يتمسّك بها،بعد أن انتقلت هذه العادات والأفكار من طور متأخر إلى طور متقدم بعد أن تنوسيَ فيها معنى الأصل،و(خفي علمه)بتعبير ابن فارس .
اتّخذ تايلر تشميت العاطس مثالًأ ليعزّز به فكرة البقايا،ففي كلّ المجتمعات التي تحدّث عنها وجد أنّ العطاس يواجهه الإنسان بإبداء مشاعر تتراوح بين الدعاء و تلاوة الصيغ الدينية والتعاويذ السحريّة،وذلك بحسب رؤى الجماعة ومعتقداتها.و ما لفت انتباهي هو أن من صيغ التشميت لدى البدائيين ما يتوافق مضمونها مع صيغة التشميت في الإسلام.
وقد أشار تايلر إلى مواقف المجتمعات الأوربية وغير الأوربية من العطاس ورأى أنّ الصيغ والأدعية التي تقال بعد العطاس تُصوّر لنا المرحلة التاريخية التي كان تفسير العطاس فيها يقوم على أساس ثيولوجي ديني لا على أساس فسيولوجي، مستشهدا بذلك بالقبائل البدائية و المجتمعات المتحتضرة في اليونان القديمة وفي الدين اليهودي والإسلامي.
يقرّ تايلر بأن التشميت عادة لها أصول موغلة في القدم يمكن اكتشافها لدى البدائيين عبر تصوّر هذه المجتمعات للروح ،لأن تايلر كان واقعا تحت تأثير النزعة الأرواحية و أراد أن يؤصل لهذه النزعة عند البدائيين الذين يتصوّرون الروح نسمة لطيفة بمقدورها إماتة الإنسان وإحيائه،فضلا عن أنّ البدائي يتصور أن العالم مليء بالأرواح والنفوس التي بمقدورها إلحاق الخير والشرّ بالإنسان وتتسبب في صحته و مرضه بمجرد أن تدخل في جسمه،وهكذا تصور البدائي أن العطسة من أعراض حلول الأرواح الخيرة أو الشريرة في جسم الإنسان.فمثلا كان السكان الأصليون في نيوزلندا يعتقدون أن العطاس ناتج عن دخول
ما خفي أصله،تشميت العاطس،الشعوب البدائية،أنثروبولوجيا لغوية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع