مدونة عبدالحكيم الأنيس


الأقدار الحزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


15/02/2023 القراءات: 1405  


(أربع حلقات ألقيت في قناة الشارقة الفضائية عام 1998م)
(1)
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
أيها الأخوة المشاهدون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سأل الحسنُ بنُ علي رضي الله عنه خالَه هند ابن أبي هالة وكان وصّافًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: صفْ لي رسولَ الله، فقال هند: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم السكت، ليست لهُ راحة". واستمرَّ هكذا يصف النبي صلى الله عليه وسلم.
توقفتُ عند هذه العبارة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم السكت، ليست له راحة" وأعدتُ النظرَ في سيرته الشريفة، فرأيتُ أقدارًا حزينةً كثيرة في حياة هذا النبي الكريم، ونظرتُ في هذه الدنيا فرأيتُ كثيرًا من البائسين، والمحرومين، والمحزونين، فأردتُ أن أضع بين أيديهم صورًا من هذه الأقدار الحزينة سلوانًا لهم فيما يرونهُ ويعيشونه ويحسونهُ، ومَنْ منا لا يحسُّ أحيانًا بقدرٍ حزين، ومَنْ منا لا تملأ قلبَهُ آلامُ الدنيا وهمومُها وأشجانُها، فإلينا جميعًا هذه الصور، وهذه الأقدار الحزينة في حياة النبي، لعلنا نتسلى بها ونتأسى، لأنَّ رسولَ الله هو الأسوة لنا في علمه، وفي عمله، وفي حياته، وفي كل شيء صلوات الله وسلامه عليه.
لقد شرب رسولُ الله الحزن، وهو حملٌ في بطن أمه. كيف ذلك؟ كلنا يعلم أنَّ والدهُ توفي وهو حملٌ في بطن أمه، كانت آمنة بنتُ وهب ما تزالُ في شبابها، وما تزال في السنة الأولى من زواجها بـعبدالله، تُرى كيف تكون مشاعرُ شابة وقد فقدتْ زوجها في هذا العمر؟
لا شك أنَّ مشاعر الحزن قد ملأتْ قلبَها وسيطرتْ على أحاسيسها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جنينُ في بطنها كان يتشربُ حزن أمه، وكان يحسُّ بآلام أمه، فقد تشرَّب الحزنَ قبل أن يُولد، وقبل أن يأتي إلى هذه الدنيا.
وعندما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طفلًا فَقَدَ أمَّه عندما كانا عائدين من زيارة أخواله بني النجار في المدينة المنورة، وكانت تُدعى آنذاك بـ (يثرب)، وهنا في الطريق أدركتْ الوفاةُ آمنة، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفلٌ صغير يرى هذا المشهد، وتدمعُ عيناه، إنَّ هذا المشهد لم يفارقهُ في ساعة من ساعات حياته.
ولذلك رأيناهُ ذاتَ يوم وهو يمرُّ في تلك المنطقة التي دُفنت فيها أمُّه يقف ويسألُ ربهُ أن يأذن لهُ بالوقوف على قبرها لزيارتها، والاستغفار لها، إنَّ مشاعرهُ لم تفارقهُ لحظة، لذلك وقف على قبرها يتذكرُ تلك الأيام، ويتذكرُ تلك الأحزان، قلبي عليك يا رسول الله كم تحملتَ من شجنٍ، وكم تحملتَ من حزن، وكم تحملتَ من ألم.
بعد وفاة أمِّه وفي أمدٍ غيرِ بعيدٍ فقَدَ جَدَّهُ، ذلك الجد الذي أولاه ورعاه، وكان لهُ عوضًا عن أمه وأبيه، وشاء الله عز وجل أن يرتحل أيضًا ليتعلق قلبُ النبي صلى الله عليه وسلم بالسماء، لا يتعلق بجهة أخرى.
ثم عندما شرفه اللهُ بهذه الدعوة وحمَّله رسالة الإسلام كانت أحزان الدعوة تملأ قلبَهُ الشريفَ في ذاته عليه الصلاة والسلام.
وقد شهد القرآن، وتحدَّث القرآن، أنَّ الحزنَ كان يملأُ قلبَه، وكان يملأُ كلَّ أحاسيسه. قال تعالى: (فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا): لعلك قاتلٌ نفسَك حزنًا، وهمًّا، وغمًّا.
أيُّ حزن هذا، الذي كان يملأ قلب النبي؟ وأيُّ شفقةٍ على هذه الأمة؟ وأيُّ إحساسٍ كان يحسُّ به وهو يريد أنْ ينقذهم من النار، ويأخذ بأيديهم إلى جنة الله عز وجل.
أحزان الدعوة لم تكن في ذاته فقط، وإنما في أصحابه أيضًا، كم يتحمل النبيُّ وهو يرى آل ياسر وهم يُعذَّبون، ويمرُّ عليهم في الهجير ويقول لهم: "صبرًا آل ياسر إنَّ موعدكم الجنَّة"، لم يكن يملكُ لهم من تسلية إلا أن يقول لهم: إن موعدكم الجنة، وحسبُهم بهذه التسلية والسلوى، وحسبُهم أن يكون لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موعدٌ في الجنة، صبرًا آل ياسر...
كم يتحملُ قلبُ النبي وهو يرى الصخرةَ على صدر بلال في هجير صحراء مكة، وكلُّنا يعلم كم يبلغ الهجير في صحراء مكة.
إنَّ قلبَ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل الكثير...
وكم يتحمل قلبُه وهو يرى خبات بن الأرت وهو يشكو إليه ما يلقاه من الشدة والعنت؟
ويوم جاء عمار بن ياسر يشكو إلى النبي ما يلقاه، ويعتذر عمّا قالهُ في ساعة من ساعات العذاب عندما نال من النبي وتكلم بكلمات غير مناسبة، قال لهُ: يا عمار إنْ عادوا فعُد، إن عادوا فعُد.
إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان الحزنُ على أصحابه يملأ قلبَه كان حريصًا على أن ينقذهم حتى وإنْ قالوا بعضَ الكلمات.
إنَّ هذه الكلمات كانت تخرجُ من اللسان، ولم تكن تخرجُ من الجنان، فلا حرجَ عليهم ولا بأس عليهم.
أيها الأخوة:
إنَّ الأقدار الحزينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ، ونحن نتناولها لعلها تكون سلوانًا لنا، وإلى لقاء آخر.


الحزن في السيرة.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع