مدونة بوشيخي سميرة


ســـلام لـــك يــــــا نـــــفسي

بوشيخي سميرة | Bouchikhi Samira


06/08/2023 القراءات: 453  



بخطوات متثاقلة تمشي، بين زقاق بيتٍ تَقَشَّر طلائُه القديم بفعل قساوة الأيام والفصول وتقلباتها، فتاة منحنية الكتفين ، في عمر الثلاثينات، تدور بين أزقة ضيقة، متعرجة، يفوح منها عبق الماضي الأسير في أصقاع ذاكرة لا ترى منها غير الحدث الأليم،
تُحدِّث حزنها الذي سكن مــآقــيها وانعكس على خارجها، فكانت عيناها تُحاكيان آلام الزمان، قد ذهب بريقهما نحو التوهان في أفكار الفقدان، ملامحها كئيبة وبشرتها باهتة كزهرة ذابلة لم تُسْق منذ زمن، ويديها أكلتهما تجعيده الكبر قبل أن تكبر في العمر، وجسدها الهزيل يختفي داخل معطفها المتدلي ووشاحها الملفوف حول رقبتها .
تدخل منزلها وهي تتأفف، وتحس بوهن في ساقيها، ومن حين لآخر تسعل وتشد على صدرها، ثم تذهب مباشرة نحو كرسيها المتحرك لتلقي عليه ثقل آهاتها ومعاناتها؛ تدفئ يديها على مدفأة بائسة في زاويتها المظلمة، قد غاب لونها من شدة سواد الفحم والخشب المشتعل؛ ولربما تعكس حزن وكدر المنزل المتألم .
تعيش نفس الروتين منذ أن تعلَّقت ببحر أوجاعها، تكاد تغرق في استسلامها لصدى أنين عباراتها التي تدونها على مذكرتها من كل يوم وليلة، وتُعيد قراءة ما كتبته أناملها؛ فتستشعر الوجع داخل جوفها من كل مرة وكأنها أول مرة؛ فتبقى في مصيدة الآهات السوداء وكأنها تعاني من عمى الألوان.
ثم تغفوا على ذلك الكرسي الذي تسميه كرسي الحنين إلى الماضي؛ ماضٍ لا تتذكر منه إلا الألم والدموع؛ وكأنها تقاوم الخروج من منطقة راحتها وتخاف أن تتقدم كي لا تصطدم مرة أخرى بمصاعب ومفاجآت الحياة.
تغفو وهذه المرة لترى فيما يراه النائم نور خافت في ظلام قاتم، تتبع أثره فيختفي الظلام وينقشع الضباب ويُظهر النور أرض خضراء ممتدة بأشجارها وازهارها وحشائشها، وفي وسطها فتاة بالغة الجمال ، تتراقص على أنغام ألوان الطبيعة ذات الروائح المنعشة.
تنادي عليها لتتقدم وتقول لها:
"يا فتاتي مالي أرى الحزن قد امتد من داخلك وعم كل محيطك. ما هذا السواد الذي ينتشر في الأرجاء، ألا تشتاقين إلى هذا الجمال والنشاط؟
إلى متى ستُعذبين هذه النفس التي تنتظر حضنك واحتواءك، نفس قسوتِ عليها وجعلتها تتعذب فانحنت من كثرة الكدر والتألم، وبدأ جسدها من الداخل يُنْخَر شيئاً فشيئاً حتى أصابه الوهن وضيق النفس والسعال...
ألا تريدين الخروج من منطقتك والذهاب للجنة التي حلمت بها نفسك؟
إذن انظري للجمال....تمعني في السلام.....تعمقي في هذه السكينة والهدوء.
تنفسي الآن بعمق، وتصالحي مع هذا الماضي الذي قهرك، واعلمي أنه من الأحزان نتعلم ومن الأوجاع نتدرب ومن الفشل نصنع النجاح.
عانقي تلك النفس الجريحة بكل حب، اعتذري منها واشكريها لأنها قادتك إلى هذا الباب الذي تجاهلت فتحه منذ زمن بعيد، اشكريها لأنها مدّت يد العون لك وسامحتك على سنين ظلمتها فيها ، ورددي معها ترنيمة التشافي :
" آسف يا نفسي، سامحيني يا نفسي، شكرا لك يا نفسي، أحبك يا نفسي".
ترنيمة الوصول للسلام والانطلاق ببداية عظيمة ، ثم اكتبي من جديد لها كلمات وتوكيدات تزيدك أملاً وتحفيز وتبعث فيك الطاقة والحيوية.
تردد الفتاة نفس الترنيمة بصوت هامس وهي تذرف دموعا وتبتسم في نفس الوقت، تبدأ في فتح عينيها ببطئ لتصحوا من حلم كاد أن يكون حقيقة؛ فترى نورا آخر ساطعاً يدخل من نافذة الغرفة، تتجه نحوه فترى الجو خارجاً قد تغير شكله، فـتـتـنبه أن سواد المنزل قد تغير وبدأ يختفي ويتلاشى نحو الأفق.....إنها الآن تجري من غرفة إلى أخرى كأنها طفلة في الخامس من عمرها، وفجأة ترى فتاة مختلفة عما كانت تراه، ترى انعكاساً لصورتها في تلك المرآة الطويلة، فتاة جميلة، مرحة، بوقفة مستقيمة، لا انحناء أكتاف ولا سعال ولا وجع مفاصل.
تقول الفتاة: "آه يا نفسي، يمكنني الآن فعلا أن أجري، أن أقفز، يمكنني أن أضحك من أعماقي،
كبف تركت خوفي من مواجهة الماضي يأسرني في منطقة راحة عمياء داخل زنزانة سوداء كل هذه السنين؟
لك سلام يا حزني، لك سلام يا جرحي؛ وآن الأوان كي ترحل عني بكل حب وهدوء ، سأبدأ الآن بمواردي وألواني الموجودة في داخلي وسأنطلق نحو الحياة والحياة هي كل ما أملك.
فشكرا لكلمة السلام وسلام لك يا نفسي."
بقلم ب.س


النفس، السلام، التصالح


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع