مدونة عبدالحكيم الأنيس


الأقدار الحزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (4)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


16/02/2023 القراءات: 922  


(4)
ونبقى مع رسول الله وأقدارهِ الحزينة.
جاءتْ فاطمةُ رضي الله عنها ذات يوم إلى أبيها، كان في نفسها كلامٌ ولكنها لم تتكلم، وعادتْ إلى بيتها، يسألُها زوجها علي كرم الله وجهه: ماذا فعلتِ يا فاطمة؟ قالت: والله قد استحييتُ من رسول الله.
ماذا في الأمر؟
إنَّ فاطمة كانت تقوم في البيت بأعباء البيت، كانت تقومُ بكل ما يحتاج إليه البيت، حتى شكت من ذلك، وحتى حملت من ذلك حملًا متعبًا، وعبئًا كبيرًا، فأرشدها عليٌّ أن تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا لتعينها على شدائد البيت وأعبائه، وانطلقتْ فاطمة ومنعها حياؤُها من الكلام، ثم عادتْ مرة أخرى وقال لها رسول الله: مالكِ يا بنية؟ فشكت إليه ما تلقاه من أعباء البيت. فقال لها: هل أعطيك خادمًا وعندي أهل الصُفة، فقراء أهل الصفة، كيف أنفق عليهم؟ لا والله.
وعادت فاطمة إلى بيتها لتتحمل عبء البيت وحدها، ولكن منظر فاطمة وشكواها حزَّ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي يفكر في الأمر. ثم انطلق إلى فاطمة وإلى علي وقد أرادا أن يناما قال: ألا أدلكما على خير من خادم؟
إنَّ رسول الله ظلتْ في نفسه تلك الكلمات، وما شاء أن يرد فاطمة دون أن يعطيها هذه المرة غذاءًا نفسيًا بدلًا من خادمة تقوم معها.
ألا أعطيكما شيئًا خيرًا من الخادم؟ تسبحان الله وتهللانه وتكبرانه، فذلك خير من خادم.
إنَّ ذكر الله عز وجل يعطي الإنسان قوةً معنوية، وقوة جسدية، فعندما يدل رسولُّ الله فاطمة على تلك الأذكار فإنَّ هذا سيساعدها على تحمل أعباء البيت.
إنَّ هذا المشهد إذن كان له أثرُه الشديدُ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ماذا يفعل؟ هل يُعطي فاطمة ويترك فقراء أهل الصُفة؟
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يفكر بغيره أكثر مما يفكر بنفسه، أو مما يفكر بأهل بيته.
وجاءتْ حادثة أخرى تلك هي معركة مؤتة يومَ انطلق ذلك الجيشُ وكان عددًا قليلًا ليقاتل جيشًا كبيرًا، كانت الراية في يد زيد بن حارثة وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن أصيب زيد فيحمل الراية جعفر، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، ووقع الأمر على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت القوتان غيرَ متكافئتين إطلاقًا، فاستُشهد زيد، وأَخذَ الراية جعفر، واستُشهد جعفر، وأَخذ الراية عبدالله بن رواحة، واستُشهد عبدالله بن رواحة، وأَخذ الراية خالد، ثم انحاز بالمسلمين، وانسحب إلى المدينة.
كان الوحيُ يراقِب هذا المشهد، وينقل الأخبارَ إلى رسول الله أوّلًا بأول، وعلم النبيُّ بهذا النبأ، وانطلق إلى بيت جعفر، لم يكن قد مرَّ على عودة جعفر من الحبشة زمنٌ طويل، وكان جعفر ابنَ عم النبي صلى الله عليه وسلم وقريبًا إلى نفسه.
ويوم عاد جعفرُ حدثتنا السيدةُ عائشة أنَّ رسول الله قام، وهو يجرُ رداءَه وإزارَه، وعانق جعفر وقال: والله ما أدري بماذا أسرُّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟
وشاء الله أن يُستشهد جعفر، وانطلق النبي في ذلك اليوم، وفي تلك الساعات إلى بيت جعفر فرأى زوجتهُ أسماء استعدت تنتظر عودة زوجها فقال لها: عليَّ بأولاد جعفر فأتت بهم فضمّهم النبي صلى الله عليه وسلم ودمعتْ عيناه وبكى، فشعرت أسماء وعلمت أنَّ في الأمر شيئًا.
ما الخبر يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم.
قالتْ: فقمتُ أصيح واجتمع إليّ النساء... وانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: احملوا إلى آل جعفر طعامًا فقد جاء ما يشغلهم.
إنَّ الموت مصيبة: فقد جاء ما يشغلهم، احملوا إلى آل جعفر طعامًا...
ما أقسى ذلك اليومَ على قلب النبي، وهو يرى زيد بن حارثة وقد سقط، وهو يرى جعفرًا وقد سقط، وهو يرى عبدالله بن رواحة وقد سقط، وقد ضمّ أولادَ جعفر إلى نفسه، ضمّهم إلى صدره واستعبرتْ عيناه.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمَّل الكثير الكثير.
ثم شاء الله بعد ذلك أن يتحملَ فقد ابنه إبراهيم، هذا الولد الذي أكرمه الله به، والذي كان في أخريات أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشبهُ أباه، وكان سلوةً له، ما إن ترعرع وبلغ سنة وبعض الأشهر حتى شاء الله أن يقبضه إليه، وحملهُ النبي صلى الله عليه وسلم بين ذراعيه وقال كلماته الدامعة الباكية تلك: "إنَّ العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
تلك هي جولة في أقدار النبي الحزينة وثم غيرها، والحياة قائمة على الألم والأحزان.
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحملُ الكثير يعلِّمنا أنْ نصبر، ويعلِّمنا أنْ لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه، فقد طُبعت الدنيا على الهمِّ والكدر، وهي دارُ العبور، وإن الآخرة لهي الحيوان.
اللهم خفِّف عنا آلامَ الدنيا، وعوضنا الآخرة، وعوضنا جنةً عرضها السموات والأرض يا أرحم الراحمين.


الحزن في السيرة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


اللهم خفِّف عنا آلامَ الدنيا، وعوضنا الآخرة،