مدونة عبدالحكيم الأنيس


الأقدار الحزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


15/02/2023 القراءات: 934  


(2)
يقولُ الإمامُ المحدِّث الناقد الكبير يحيى بن معين البغدادي: "الدنيا دار مكروهٍ وحتوف".
هذه الكلمة على وجازتها تصفُ لنا الدنيا وصفًا دقيقًا موجزًا، الدنيا دارُ مكروهٍ وحتوف، يرى فيها الإنسانُ أصنافًا من المكروهات، ثم مع ذلك تنغص لذتهُ عندما يتذكر أنَّ هناك نهايةً تنتظره، إن الموتَ نغصَّ اللذات، وكدَّر الدنيا، وجعلَ الإنسانَ يلاحقه شبحُ النهاية أينما كان، وإذا كانت الدنيا بهذه المواصفات فما أحوج الإنسانَ إلى أن يتأسى بغيره وهو يرى الأحزانَ تطاردهُ، وتلاحقُه من هنا وهناك.
تحدَّثنا في اللقاء الماضي عن الأقدار الحزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كنا نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في التشريع والعبادة والأخلاق فإننا نقتدي أيضًا في صبره على شدائد الدنيا، في صبره على أشجانها وأحزانها وآلامها، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوةُ الحسنة، وهو الأسوة الحسنة لنا في كل شيء.
لقد عانى النبيُّ في هذه الدنيا معاناةً شديدةً، وقد كانت أحزانُه أحزانًا نبيلةً لأنها كانت أحزانًا لله، وفي الله، وبالله عز وجل، لم يحزنْ لفوات دنيا، ولم يحزنْ لفوات مطلوب شخصي، وإنما كانت أحزانُه لله عز وجل.
تناولنا في اللقاء الماضي بعضًا من الأحداث، ونتحدث الآن عن أحداثٍ أخرى:
الإنسان بفطرته يحب أن يكون لهُ ولدٌ ذكرٌ يحمل اسمَه، ويكون امتدادًا له مِن خلفه، ولكن مشيئةَ الله عز وجل وإرادته اقتضتْ أن لا يبقى للنبي ولدٌ ذكرٌ، مات الواحد تلو الآخر، فقال المشركون ما قالوا، قالوا: إنَّ محمدًا أبتر، وقد دافع الله عنه، وقال له بعد أن قالوا ما قالوا: (إنَّ شانئك هو الأبتر).
إنَّ أحزان موت الذكور من أولاده، تبعتها أحزان أخرى: تلك الأحزان هي سماع أولئك الأقوام الذين قالوا هذه الأقوال، وتصوروا أن محمدًا سينتهي بموته لأنهُ لم يبق له ولد من بعده يبقى امتدادًا له، وفاتهم أنَّ محمدًا هو رسول الله، وأن امتدادهُ هو امتداد رسالتهُ التي شاء الله أن تكون رسالة خاتمة إلى يوم القيامة.
إنَّ موت الولد هو موت الثمرة، وما أجمل ما قاله بعضُ العلماء في قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). قال: إن المقصود بنقص الثمرات هنا: موت الأولاد، نعم إنَّ الولد ثمرة الفؤاد، وما أشد على النفس وما أقسى، أن ترى هذه الثمرة تذبل وتسقط ثم تذوي وتوارى في التراب، عندما نفكر في مثل هذه المعاني نرى كم عانى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرى أولاده الذكور يموتون واحدًا تلو الآخر.
ليس هذا فحسب بل هناك الفراق أيضًا: إذا كان هناك فراق دنيوي أبدي، فإنَّ هذا الفراق من نوع آخر:
عندما اشتدتْ وطأةُ المشركين على المسلمين، وكانت الهجرة إلى الحبشة، خرج عثمان بن عفان مهاجرًا إلى الله مصاحبًا معه زوجته رقية بنت رسول الله.
إنَّ فراق الولد صعب شديد، ولنا أنْ نتصور حزن رسول الله بفراق ابنته التي خرجتْ مهاجرة مع زوجها، وهكذا فقد البيتُ النبوي عضوًا من أعضائه، وشيعهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "إنهما أول مهاجرين بعد لوطٍ وأهله".
ثم جاء الحصارُ، وما أدراك ما الحصار؟ جاء الحصار الذي ضيّق على المسلمين، ضيّق على رسول الله وعلى أصحابه، وممن؟ من الأقرباء.
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ... على النفس مِنْ وقع الحُسام المهنّدِ
الحصار الذي امتدَّ وقتًا طويلًا، وعانى فيه المسلمون معاناة شديدة، تحمَّل النبي عبء الجوع، وتحمَّل فيه عبء المسلمين المحاصرين، يفكِّر فيهم، وفي جوعهم، إنَّ رسول الله القائد لا يفكر في نفسه فقط، إنه لا يتحمل ألم نفسه فقط، ولكن ألمه عندما يتألم الآخرون كان أشدَّ عليه من كل شيء. ذلك لأنهُ رسول الله الإنسان فعلًا وحقًا.


الحزن في السيرة.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع