مدونة ياسر جابر الجمال


تمائم الموت وعصارة القلب1

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


03/02/2024 القراءات: 503  


في يوم من الأيام كنت جالسًا مع أستاذنا الشاعر الكبير عبدالمنعم كامل، وقال لي في أثناء الحديث: إنَّ هناك شاعرًا لو قُدِّر لي الحُكم لجعلته شاعرَ العربية الأول ، فقلت له من هذا ؟!، فقال : أحمد بخيت ، ثم اصطحبني إلى جهاز الكمبيوتر، وقال لي: هذا ديوانٌ له، وأخذ يقرا عليَّ قصائدَ منه، لعلِّي أذكر قصيدة "ملك وشحاذون ".
ثم طلبت منه أخْذَ نسخة من الملف حتى أستكشف عالم هذا الشاعر .
بداية لم أكن أعرف الأستاذ أحمد بخيت، وهذا ليس تقليل منه؛ وإنما تعرفت عليه مؤخَّرًا .
وقد كنت في يوم من الأيام في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطا، واطَّلعت على خُطة بحث بعنوان " التناص في شعر أحمد بخيت" لا أذكر اسم الباحث؛ ولكن من تقسيمها فالظاهر إنها لا تنهض لقراءة نصوص أحمد بخيت بصورة دقيقة أو مغايرة بحيث تكشف على مكنونات نصوص بخيت وتجارِبِه التي تنبض بالجمال والإبداع .
كذلك فإنَّ دراساتٍ كثيرةً قامت حول أحمد بخيت، منها رسالة ماجستير في جامعة فلسطينية، وغيرها من الدراسات، فهو يستحق ذلك .
وللعلم فإنَّ أحمد بخيت ترك وظيفته في الجامعة بدار العلوم كمعيد ليتفرغ للعملية الإبداعية، وحصل على لقلب أمير الشعراء، وعديد من الجوائز والتكريمات .

هذا التأسيس المختصر يؤسس لنا مهادًا معرفيًا حول أحمد بخيت عند قراءة نصوصه بصورة مناسبة، فالقارىء لأحمد بخيت يدرك مدى المرارة التي تعتصر من نصوص؛ فهذا الديوان أو رواية الشعر كما سماها وهي لون من الشعر والنثر في آن واحد كما نقول قصيدة النثر، تؤكد بصورة واضحة استدعاء الشاعر لمسيرة حياته، وكأنه يدوِّن مسيرته في الحياة،وخلاصة تجرِبته .
وهذه القصيدة التي نحن بصددها "نقوش" تنهض على عتبات نصية متعددة ، وتبلور صورًا سيميائية متنوعة، بداية من اختيار العنوان، فوفقًا للمنهج الكورنولوجي – التسلسل الزمني- فإن أحمد بخيت يستخدم لفظة خالدة في عمق التاريخ ، وهي التي تُستخدم في تخليد الأحداث والأشخاص عبر التاريخ القديم – نقوش-

كما يقسِّم بخيت قصيدته إلى مقاطع محددة الوقفات والمساحة الكتابية بصورة يحسن عليها التنغيم وَفق لغة موسيقيَّة تساعد على الإلقاء بصورة بصرية وحركة تتوائم وإيقاع الكلمات .
كما يستخدم بخيت تقنية المقابلة بين الحياة والموت بين مسيرة العمر ونهايته، في فقرات محددة ، حيث
يقول بخيت :

نقشٌ على حجرٍ
يُخلِّدُ سِيْرَتَكْ
ولربَّما يُنسي خُطاك
وحَيرَتَكْ

فهذه اللوحة الأولى من لوحات بخيت، وكانها استدعاء لمسيرة الحياة في صورة مكتنزة ، ومحمَّلة بالدلالات التي ترسم صورة النهاية للإنسان في بعض كلمات: على حجر، في الحياة الآخرة ، وكأن بخيت يستدعي الصورة النهاية للحياة واقفًا بذلك على عتبة نصية محددة في تقرير المصرير النهائي بأسلوب خبري واضح .


اللوحة الثانية :
يقول بخيت فيها :

نقشٌ على حجرٍ سيحملُ وحدَهُ
أَلقابَ حزنِكَ
حين تنسى كُنْيَتَكْ

إنَّ "إحساس الإنسان بالموت يترافق مع قلق على المصير، والعلاقة بين الأمْرَين علاقة طرديّة، كلّما ازداد إحساس الإنسان بالموت، تصاعد قلقه، "والقلق ليس هو الخوف؛ لأنّ الخوف هو دائما من شيء معيّن، أمّا القلق فيتعلّق بالأشياء كلّها في مجموعها؛ إنّ ما نقلق عليه هو العدم الماثل في الأشياء والأحياء، إذ نشعر في القلق بأنّنا نحن وكلّ الأشياء والأحياء قد انزلقنا في هاوية غامضة غير محدّدة" ، إنّها هاوية الموت والفناء. "


اللوحة الثالثة :
يقول بخيت :

حجرٌ هنا
حجرٌ هناكَ
ورحلةُ الـ صَّيفِ الشِّتاء
فمَنْ سيقرأُ رحلتَكْ؟


اللوحة الرابعة :

يومٌ أَمامَ الضَّوءِ يبلغُ ليلةً
كلُّ اللَّيالي
لا تُشابهُ ليلتَكْ

اللوحة الخامسة :

تستدعي وتلخص صورة الميلاد التي هي بداية خروج الإنسان للحياة ، ومشاهد الولادة ، وتصوير بخيت لها في مشهد درامي نابض بالصوت والحركة معتمدًا على تكثيف المشهد واللقطة ، يقول :

في صوتِ نائحةٍ
يلخِّصُ سيرةً
تاريخُ قابلةٍ
تخلِّصُ سُرَّتَكْ

هذه المفردات التي استخدمها بخيت نابعة من بيئته، والمجتمع القائم فيه كالقابلة، والسرة، والنائحة، فهي مفردات من المجتمع المصري ، كذلك الاعتماد على تَكرار حروف بعينها وجرسها الموسيقي وعقد مناسبة بين ذلك، وبين المشهد الذي يحاول إيصاله للمتلقي، كما أن الأسلوب الخبري المستخدم في تقرير وإيراد الحقائق، والأفعال المضارعة التي تدل على تجدد الحدث كل يوم .

اللوحة السادسة :
إن تمثلات الصورة في هذا المشهد تمكن من عقد مقارنة بين مشهدَين: مشهد البداية والنهاية؛ فالصور الإدراكية والتمثلات تتشكل عبر حياة الإنسان منذ لحظات بداية إعمال العقل عنده، ثم تتراكم وتتكاثف، وتؤسِّس صورًا جديدة مركَّبة، وتغني الصور الموجودة أو تعدِّلها، وبهذا تتشكل شبكة من الصور هي التي تعرف بعد ذلك بـ فكر فلان أو تفكيره.
وما من شك أنها ليست موضوعية محضة؛ ذلك أن عقل الإنسان له خاصية التوليد، وهو ليس محايدًا، وكذلك ليس هذا الفكر ذاتيًّا محضًا؛ لأن الحقيقة لها وجود خارجي، هو الذي يشكِّل القاسم المشترك بين العقول، وإلا استحالت الحياة ولم يتمكن الناس من بناء أيِّ حقيقة مهما كان حجمها ونوعها:
ويدانِ لِلأَبِ
ترفعانِكَ عاليًا
ويدانِ لابنِكَ
تُضجعانِكَ ضجعتَكْ

هنا المطابقة تبدو واضحة ، ودورها في الربط بين الجُمل؛ فهو هنا يعقد مقابلة بين موقفَين ، موقف بداية الحياة: " ويدان للأب ترفعانك عاليا" موقف البدء والسرور ، والبهجة، وموقف النهاية: " ويدان لابنك تضجعانك مضجعك" ، صورة النهاية، فهو يخلص صورة ذهنية، ونفسية متعاكسة .
إن هذا الأداء الجماليَّ للغة التي اعتمد عليها في بخيت في الإرسال التقني لصورة البداية والنهاية من خلال المقابلة بين حالتين في إيجاز متميز، فهذا المقطع يعبِّر به الشاعر عن نفسه، وعن ذاته، ويقرر مصيره.


تمائم الموت وعصارة القلب1


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع