مدونة ياسر جابر الجمال


دلالة تكرار الموقف بين خيال الدراما والواقع الموازي

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


18/02/2024 القراءات: 497  


إن الموقف إذا تكرر أكثر من مرة بصور متتالية ومحددة بدقة فإن هذا لايُعد سوى منهجًا متبعا لترسيخ هذا الموقف وتلك القضية في النفوس، بحيث تصبح قناعات ثابتة.
ثمة قضية من القضايا الهامة في تاريخنا وتاريخ السينما المصرية منذ بدايتها حتى الآن، وهي تكرار موقف بعينه، ويمكن أن يكون هو قصة العمل الدرامي المحورية التي يدور حولها العمل كاملا .
هذه القضية هي فشل المتعلمين في الحصول على الأموال، واعتبار أنهم لا يستطيعون العيش بسبب الانشغال بالتعليم، ببساطة أناس فاشلون في نظر المجتمع، وعلى النقيض نجد أصحاب الحِرَف بكافة أنواعها أو المَعَلِّمين، والصنيعية أو المقاولين...إلخ، هم الذين يستطيعون تحقيق متطلبات المجتمع، من الأموال والمكانة الاجتماعية والحظوة عند الناس، ومن ثم الحصول على الشقة والزوجة المتعلمة التي كانت حلم الشاب المتعلم.. كما كانت تصور لنا الأعمال الدرامية على امتداد عشرات السنين ..
السؤال هنا.. لماذا يحدث مثل هذا الأمر؟ وما الهدف من تصويره بهذه الدقة في الأعمال الدرامية والسينمائية والتلفزيونية وغير ذلك ؟!
لماذا أصبح التعليم يرمز إلى الفشل والتخلف؟! كما يُنظَر إليه بصورة النقص !!
هذه التساؤلات وتلك المفارقة الصارخة لم تعد تُطرح في الأعمال الدرامية فقط، فقد أصبحت نمط حياة أو نموذج مُشَاهَد في كل مكان من حولنا، والسؤال الآن ليس لماذا تطرح السينما والتليفزيون مثل هذه التصورات!!.. وإنما أصبح.. ما جدوى التعليم والشهادات والقراءة الآن ؟
هل ستُحقق لي الحياة التي أطمح إليها ويطمح إليها أي إنسان؟!! أم هي مجرد شهادات وأوسِمة نهايتها أن تُزين بها الحوائط ؟!!!.
الشباب اليوم - وأنا منهم - يفكر بعقلية القيمة أو الثمن، هل هذه الشهادات وتلك الدراسات سوف تجعلني أعيش حياة سعيدة أم سوف يضيع عمري في قراءة وكتابة كلام غير مفهوم دون مقابل ؟
إن التعليم - كما تصوره السينما - يعني شخصا فاشلا من الناحية الاجتماعية، لا يستطيع الحصول على شقة أو مرتب مجزي أو وظيفة مناسبة، يسكن في الحواري المعدمة من المدينة ولا يستطيع توفير الأجرة للسكن، يستعير ملابس وكتب أصدقاءه الأغنياء، وفق ذلك فهو يعشق فتاة من الوسط الأرستقراطي، وهذه أكذوبة كبرى أسست لها الدراما، وأوهمت المشاهد بإمكان تحقيقها!!.. التعليم يعني إنسان غير متفاعل مع الواقع ولا يعلم أن الدنيا تغيرت.
من ناحية أخرى.. يوجد المَعَلِّم والفهلوي، الذي استطاع في بضع سنوات أن يصبح من أصحاب الملايين، ورجال المجتمع، واستطاع أن يثبت ذلك بكل السُبل، فالأشياء التي تنقصه يمكن شراءها بالمال، وبأي سبيل، أما المتعلم فهو عاجز حتى عن العيش أو توفير لقمة الخبز، إنه الخواجه أو الأستاذ والأفندي .
إن هذا التأسيس المعرفي الذي قدمناه لتلك القضية، هو بمثابة عتبة يمكن الوقوف على دلالتها وأبعادها المتعددة والقضايا المنبعثة منها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه سيميائة الموقف ودلالته من خلال الأعمال الدرامية التي حاولت أن تُرسِل لنا الإشارة منذ البداية.
فقد ظهر ذلك جلياً في أفلام "نجيب الريحاني" كـ (غزل البنات)، عندما تم تصوير المُتعلِّم على أنه إنسان مُعدم لا قيمة له، يعمل في إحدى المدارس ولا يستطيع توفير الإيجار أو الأكل أو الزي المناسب.
وفي أفلام "حسين صدقي" عندما ظهر المتعلم على أنه غير قادر على الحصول على وظيفة، فاضطر للعمل في أحدى الوظائف التي لا تتناسب مع مكانته العلمية.
كما ظهر في فيلم ( انتبهوا أيها السادة ) لـ "محمود ياسين"، عندما تم إظهار "حسين فهمي" الحاصل على الدكتوراه على أنه عاجز عن توفير شقة والحصول على المرتب المناسب لشخص في مكانته العلمية، في حين أن محمود ياسين "عنتر" أو " المعلم عنتر " الذي يعمل في جمع القمامة أصبح من الأثرياء ورجال المقاولات الذين يملكون عشرات العمائر والأماكن، ويستطيع أن يفعل أي شيء طالما أن معه المال .
وإمعانا من المؤلف في إخراج المتعلم "حسين فهمي" في صورة مخزية، وأنه لا يساوي شيء في العصر الذي وُجِد فيه، استطاع المعلم عنتر أن يتزوج خطيبته كزوجة ثانية ولم تعترض لأنها تريد الشقة والحياة السعيدة، ومازال الدكتور "حسين فهمي" يبحث عن الشقة..
هذه نماذج من السينما.. أما التليفزيون فتوجد نماذج عديدة لا حصر لها، منها: (حضرة المتهم أبي ) 2006م المسلسل المعروف، تأليف: "محمد جلال عبدالقوي"، وإخراج: "رباب حسين"، وبطولة "نور الشريف" – عبدالحميد دراز - .
الدلالة المباشر لهذا العمل هي تصوير صراع الأجيال والطبقات في المجتمع، بين الطبقات المتوسطة الكادحة التي تحمل القيم، وتسعى إلى توفير العيش والتعليم المناسب لأبناءها، والطبقات الارستقراطية التي تتحلل من كافة قيود المجتمع تحت مزاعم الحرية والانفتاح.

إلا أننا نجد دلالة غير مباشرة أو ضمنية مبطنة تُبرَز من خلال عتبات هذا العمل، على الرغم من وضوحها في السياق الدرامي، وانبعاث شظياتها من كافة العمل، إلا أن المؤلف يحاول ختام العمل بالصورة المعهودة، وهي زواج البطل الفقير من البنت الارستقراطية - نهاية حالمة - حتى لا ينزع المشاهد.
(حضرة المتهم أبي) هي علامة سيميائة مباشرة لتلك القضية التي نتناولها بين إهدار قيمة التعليم، وبين عالم المقاولين وتجار الأموال والصنيعية.


دلالة .. تكرار .. موقف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع