مدونة سعد رفعت سرحت


اللغة العربية بين(فطرتُهم و فِطنتُنا)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


01/06/2023 القراءات: 559  




عندما كان الأعرابي يسمع أحاديث النحاة في اللغة يستوقفه حديثهم( بلغته في لغته بما ليس في لغته !)،والمراد بذلك جهله اللغة الواصفة عند النحاة،غير أنّ هذا الأعرابي كان_أحيانًا_ يتصنّع الجهل بمصطلحات النحو بدعوى أنّ لوثة الحضارة لم تتناوله بعد،فقد أصبحت "الأعرابية"تجارة تحمل عنوان"الفطرة السليمة"و"السليقة"و"البداهة"،و شيئًا فشيئًا اكتشف اللغويون أمرهم وكانوا لهم بالمرصاد،ومع ذلك ظلّت"الأعرابية" مرادفًا للأصالة،والقضية ذاتها اليوم قائمة على قدم وساق !.


إنّ متاجرة الأعراب باللغة بقيت آثارها حتى العصر العباسيّ،ومن يتابع قضية الرواية والرواة في التراث العربي يخرج بأمثلة كثيرة تدلّ جميعها على أنّ عصر الفطرة انتهى مذ أنْ صرّح عبد الملك بن مروان بترقّبه أو توقعه اللحن في قوله الشهير(شيبني ارتقاء المنابر و مخافة اللحن)!.


الفطرة مفهوم ينسجم مع الأميّة وغياب ترقّب اللحن،أما و قد أصبح هذا الاستعداد ملكة تُبنى بالاكتساب والمران والكتابة فلم يعد"للفطرة"حضورٌ في حياة العرب،بل حلّت محلّها "الفطنة" و التشبّه بالاسلاف والنسج على منوال الأولين،وهم إنّما ينسبون هذا الاستعداد الى الفطرة مجازًا،أو تعبيرًا عن توقهم إلى الروح العربية التي أصبحت أنموذجًا يحتذون به.



اللغة بوصفها وسيلة تواصل شيء،و بوصفها مجال درس شيء آخر، فعندما نتحدث بالعربية نتحدث لأننا مشاركون وحاملو الثقافة العربية،على حين أنّنا حين نصف طبيعة اللغة العربية أو بنيتها فإننا_إذّاك_ننتقل من كوننا مشاركين إلى كوننا مراقبين نرصد خصائص اللغة مستهدفين نظامها،فاللغة عند حاملي الثقافةفعل اجتماعي شأنه شأن أي فعل يؤديه الإنسان في ضوء نظام ما من أنظمة المجتمع،أمّا اللغة عند اللغويين ففعل مؤسسي واصف تتيحه الملاحظة ثمّ جدولة المادة المرصودة وفق الأشباه والنظائر وصولا إلى الصياغات المقننة ..... .


واجب اللغويّ أنْ يتحدث العربية جيدًا ما استطاع،يجهد إلى أن يتشبّه بالأسلاف قدر طاقته،فقد يقتدر من ذلك أو لا يقتدر،فإنِ اقتدر من ذلك وتمكّن أ يعني هذا كلّ شيء؟.


لا بكلّ تأكيد،لأنّه إذّاك يتحدّث جيدًا فحسب،أمّا الشطر الآخر من شخصية اللغوي فليس له منه نصيب حتى تكتمل لديه مواهب الرصد ودقة الملاحظة والتحليل والوصف،خذ مثلًا "المستشرقين" فليس فيهم مكين مقتدر من لغة العرب،وهم في غير مكان يعترفون بافتقارهم إلى مواهب التكلم والاستماع، ولكنهم في مقابل ذلك باحثون من الطراز العالي، يصفون العربية وصفًا يُعجبك،لأنّ علاقتهم باللغة العربية علاقة مراقب أكثر منها علاقة مشاركة.


في التراث العربي لم تكن هذه الفكرة غائبة،فشخصية اللغوي لا تكتمل بتمام الآلة فحسب،بل بتمكنها من التفسير والتأويل وبعد النظر و عمق الرؤية،وإلّا فهل كان عبد الملك بن مروان لغويًّا؟وهل كان الحجاج بن يوسف لغويًّا؟.


لا،ليس لهما من البحث اللغوي نصيب،نعم كانا لا يلحنانِ،لكنّ عدم اللحن ليس كافيًا لأن نكون إزاء شخص لغويّ،إنّه متحدث جيّد فحسب،وإنْ كان له من النحوِ والشعر نصيب.


والسبيل إلى الكمال_والكمال محال على البشر_أنْ يجهد اللغوي إلى الظفر بكلا الجانبين:أنْ يتحدّث جيدًا ما استطاع،وأنْ ينمّي في نفسه مواهب الوصف،يقول أبو سليمان المنطقي:((نحو العرب فطرة،ونحونا فطنة،فلو كان إلى الكمال سبيل لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا،أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم))(الامتاع والمؤانسة لابي حيان)








نحو العرب فطرة،ونحونا فطنة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


أحسنتم دكتور سعد جزاك الله خيراً


شكرا دكتور محمد بوركت