مدونة ياسر جابر الجمال


الأنثربولوجيا الأدبية دراسة في المفهوم .

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


07/01/2024 القراءات: 144  


التقطعات المعرفية بين العلوم والمعارف من القضايا التي لا يمكن حسمها ولا يجادل في ذلك إلا كل ضيق الأفق محدود المعرفة، فالعلوم تتقاطع مع بعضها البعض في قضايا متعددة منها داخل في تأسيسها ، ومنها متعلق بسياقها وأنساقها، وهذا يؤكد لنا صعوبة الفصل بينها، ومن ذلك القضايا الأدبية وعوامل النشأة والتكوين والبيئة، وتقسيماتها؛ لذلك فقد دأب" العلماء والفلاسفة في كل مكان وزمان عبر التاريخ الإنساني، على وضع نظريات عن طبيعة المجتمعات البشرية، وما يدخل في نسيجها وأبنيتها من دين أو سلالة، ومن ثم تقسيم كلّ مجتمع إلى طبقات بحسب عاداتها ومشاعرها ومصالحها. وقد أسهمت الرحلات التجارية والاكتشافية، وأيضاً الحروب، بدور هام في حدوث الاتصالات المختلفة بين الشعوب والمجتمعات البشرية، حيث قربت فيما بينها وأتاحت معرفة كلّ منها بالآخر، ولا سيما ما يتعّلق باللغة والتقاليد والقيم "
من المعلوم أن المجتمع المصري ينقسم إلي ريف، وحضر، كما يتسم الريف بالترابط والتكاتف، والمحافظة على العادات والتقاليد ، والقيم التي توارثوها عن الأجيال ، "فالأسرة لا تقوم إلا بأفرادها مجتمعين، وكل منهم يعرف ما له وما عليه، ولذا قد نجد أسرتين أو أكثر تحت سقف واحد يسودهم الإخاء والود( ).
تلك البيوت الصغيرة المتجاورة التي يقابل بعضها بعضًا تراعي حقوق الجوار، فليس بينهم غريب ولو كان غريبًا، فكل منهم يعرف الآخر معرفة مفصلة تمتد إلى شؤونه الخاصة( ). ومع انتشار المصالح المادية في جميع طبقات المجتمع ظلت الصفات العربية الأصيلة على ما هي عليه في الريف كالكرم والمروءة، فمع ضيق ذات اليد، ومع العناء الذي يكابده الريفيُّ من أجل تحصيل قوت يومه إلا أنه يجوع ولا يقصر في واجب تفرضه عليه شهامته ومروءته( ). عوامل وقيم راقية أثرت في تكوين الشخصية المصرية الريفية ، وبنيتها الثقافية ،فنضح ذلك على سلوكها وتصرفاتها ومواقفها تجاه الأخرين .
في حين أن المجتمع المدني كأي مجتمع ناهض، فهو يسعى دائباً إلى الرقي والتقدم وتطوير قدراته وإمكاناته في شتى مجالات الحياة بجد وإتقان بعيداً عن كل ما يعوقه عن تحقيق أهدافه، ولشدة انهماكه في تحقيق ذاته ضعفت صلته ببعض القيم، ومن ثَم تبددت الصلات الأسرية في المجتمع المدني أضعف منها في المجتمع الريفي، ولم يعد للجوار أهمية تذكر، وأصبح التعاون مبنيًا على تبادل المصالح، وفي ظل تلك التغيرات قلَّت الأعياد وأصبح الاحتفال بما بقي منها باردا، ولم يعد هناك ما يجمعهم خارج إطار العمل إلا ما كان في المقاهي للتسلية وإضاعة الوقت( ).
هذه العوامل وتلك المعطيات هي من تؤسس لدى المبدع الإطار لتجربته، وما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، إنها سلطة البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه تمارس عليه سلطات لا حصر لها تنضح على عبارته وتراكيبه، واختيار موضوعاته وقضاياه، والمثال الصارخ في التاريخ لتلك القضية هو الشاعر الكبير علي بن الجهم الذي تعرض لبيئتين، فاختلف السياق فجاءت لتجارب مغايرة ومتنوعة ، فقد ورد في كتب الأدب أن على بن الجهم" وقف لأول مرة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل، مادحًا، وهو الشاعر البدوي الفصيح المطبوع، فلم تسعفه قريحته بأجمل من هذا الكلام يقوله للخليفة:
أنت كالكلب في حفاظك للود
و كالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو، لا عدمناك دلوًا
من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ
لكن الخليفة المتوكل لا يغضب، ولا تصيبه الدهشة، و إنما يدرك بلاغة الشاعر و نبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره، وأنه لملازمته البادية، فقد أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب .. ثم هو يأمر للشاعر بدار جميلةٍ على شاطئ دجلة، بحيث يخرج الشاعر الى محال بغداد يُـطالع الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم.
يُـقيم الشاعر "علي ابن الجهم" مدة من الزمن على هذه الحال، والعلماء يتعهدون مجالسته ومحاضراته، ثم يستدعيه الخليفة و ينشده الشاعر قصيدة جديدة ... فتكون المفاجأة ... قصيدة من أرقّ الشعر و أعذبه... يقول مطلعها:
عيون المها بين الرُّصافة و الجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
يقول المتوكل: انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه ان يذوب رقة و لطافة"


الأنثربولوجيا الأدبية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع