مدونة سعد رفعت سرحت


علي الوردي الحكواتي المبدع(القصص والحكايات التي يستشهد بها الوردي كانت واقعية أم كانت ملفّقة؟)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


24/06/2023 القراءات: 940  




يتحدث الدكتور عبد الفتاح كليطو عن ضرب من الأخبار غير الموثوقة كالتي كان الجاحظ ينقلها _وأحيانا يخترعها_ في مؤلفاته،يرى كليطو أنّ هذه الأخبار على زيفها إنّما هي ((تشريف له بمعنى ما،فإنْ كان التزييف ينقص من قيمته كراوية،فإنّه يعلي من شأنه ككاتب))(الكتابة والتناسخ،كليطو:٨٩).


إنّ القصص التي يسوقها على الوردي تأييدًا لآرائه،لا تنقص من قيمته كاتبًا،ولا من قيمته عالمًا،إذ يكفيه عن تهمة التلفيق هو أنّ قصصه وحكاياته كانت وما زالت مألوفة لدى أهل الثقافة وإنْ كانت مخترعة، إذ ليس بمستبعدٍ وقوعها،فهي حكايات تُساق لتكون حجة على فرضية ما،أو تساق لتُنَمْذِجُ ظاهرةً اجتماعية ما أو مشكلة اجتماعية ما،ولا أظنّ أنّ من بين تلك القصص قصّة غير ممكننة الوقوع،أو قصة موغلة في الخيال.




يميل علم الاجتماع للتعامل مع المجتمع تعاملًا "شكليًّا" فعند الحديث عن الشخصية العراقيّة مثلا،لا يلجأ عالم الاجتماع إلى تشخيص فرد بعينه أو فئة بعينها،بل يستقي من العراقيين صورة شخصية واحدة منمذجة تستوعب كل أفراد المجتمع العراقي،إذ يستقي الباحث من سلوك فرد ما صورةً نموذجية فيقوم بإسقاطها على المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الفرد،وهذا ما يعرف في علم الاجتماع ب"الشخصية المنوالية".


و لكن على الرغم ممّا لقته الشخصية المنوالية من نقد و ردود أفعال فإنّ  الحاجة إليها جديرة ،و في مسارات كثيرة تتوقف الأحكام السوسيولوجية عليها.وعند هذا يقوم علماء الاجتماع بتكوينها شكليًّا بما يلحظونه في المجتمع من ظواهر وبما يستجمعونه من حكايات وقصص مأثورة،و أعتقد أنَّ الدكتور علي الوردي وهو إزاء بناء "شخصية العراقي"و "شخصية البدوي"اعتمد القصص والمأثورات لتكوين ملامحها وإبراز خصائصها،خذ مثلًا كتابه(دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)وانظر حين يتحدث عن "شخصية البدوي" كيف يؤيدها تاريخيًا بالقصص والحكايات التي تمنح الشخصية المنوالية ملامحها وأبرز سماتها،فما يريده علي الوردي بهذه القصص هو تكوين أنموذج للشخصية،فهذه الحكايات و المأثورات يتناقلها افراد المجتمع و يتمثلونها بأنفسهم،و إذّاك لا يُسألُ علي الوردي _(وحده)_ عن مدى صدقها أو واقعيتها(راجع من كتابه هذه الصفحات ٤١_٤٤_٦٣_٧٣)فالذي ينبغي أنْ يُسألَ عنها قبل الوردي هو المجتمع نفسه،نعم المجتمع هو المسؤول الأول الذي ينبغي أنْ يُسأل عن هذه المأثورات وعن دورها في تكوين صورة مشوّهة عنه!.


الحال ذاته مع الحكايات التي يُتّهم الوردي باختراعها أو تزييفها،فإنْ ثبُت عنه ذلك فإنّه أيضًا ليس الوحيد الجدير بالمساءلة،إذ الأجدر بالمساءلة هنا هم أفراد المجتمع الذين لم يستطيعوا بسلوكياتهم و مواقفهم أنْ يمنحوا لعالم الاجتماع صورة ناصعة عن مجتمعهم!.


أدى السرد دورًا محوريًا في النظرية السوسيولوجية على مدار تاريخها،فقد استعان به الرواد  في تأييد نظرياتهم ،إذ استعانوا بالحكايات و القصص والأمثال والحكم السائرة التي كان الرحالة والهواة والمبشرون يروونها عن الأقوام غير الأوربية،فضلًا عن قدرة الأنثروبولوجيين الخلاقة على اختراع القصص بما ينسجم مع طروحاتهم، ويكفي دليلا على ذلك جيمس فريزر في كتابه الشهير الغصن الذهبي الذي يعدّ في جانب منه أثرًا أدبيًّا ونتاج مخيلة أدبية خلاقة، والأمر كذلك عند الوضعيين مثل دوركايم و ليفي بريل ومارسيل موس وهوبير،فعلى على الرغم من إصرار هؤلاء على النزعة الوضعية،فإنّ لهذه المأثورات فضلًا كبيرًا على خطاباتهم،ومن يراجع كتاب ليفي بريل (العقلية البدائية)تهوله الحكايات والمأثورات والقصص التي أوردها عن حياة البدائيين.


وقد بقي الخطاب الأنثروبولوجي يحتضن ضروبًا وأشكالًا سردية كثيرة حتى غدا هذا الخطاب إلى الأدب والنقد أقرب(ينظر مثلا:تأويل الثقافات،غيرتز:٤٧_٤٩)ففي الخطاب البنيوي كان كلود ليفي شتراوس يعكس في خطابه الأنثروبولوجي شخصية الأديب واللغوي والناقد أكثر مما يعكس شخصيته الأنثروبولوجية،إذ ينفتح خطابه على أشكال سردية كثيرة من أساطير وخرافات و حكايات عن الشعوب، و هو لا يلبث يعيد صياغتها أو يقوم بنقدها،بل أحيانًا يعدّ هو جزءًا من الحكاية التي يرويها،فمثلًا هناك من ينظر الى كتابه الشهير (المدارات الحزينة) على أنّه سيرة ذاتية......(من دراسة قيد النشر للكاتب في إحدى المجلات العربية)




ليس علي الوردي مُحَدِّثًا،و لا ينبغي أنْ يخضع لمقاييس الجرح والتعديل،فالجرح والتعديل علم خاص بصحة آثار النبي (ص)و الأولياء و الصحابة حصرًا،و"معرفة الرجالِ"أداة خاصة بمعرفة من يروي هذه الآثار،وأرى أنّ الحديث عن تلفيق علي الوردي القصص والحكايات من الرخصِ بمكان.


كان علي الوردي يبحث عن المعنى ،كان يجول ويتقلب بعينيه وأذنيه،لكي يؤلف مما يراه و يسمعه نصًّا حكائيًّا يعيد به تشكيل العالم أثنوغرافيًّا،ولعلّ خير من تحدث عن هذا المنحى في خطاب علي الوردي هو الأنثروبولوجي العراقي د.علاء جواد كاظم وهو يصف الوردي:((إنّه حكواتي مبدع))نعم فالأثنوغرافي هو بالضرورة حكواتي مبدع،يعيد ما تراه عيناه في العالم أو يعيد بسرده الخاص حكايات الناس والجماعات التي يلتقي بها في ميدان(انظر:الصورة حكاية أثنواغرافية:٤٩)وهذا بطبيعة الحال ناتج عن أنّ أهم ميزة في شخصية عالم الاجتماع و شخصية الأنثروبولوجي هي الهوس باللغة وسعة الخيال الأدبي وإنْ لم تكن لديه صلة رسمية باللغة و بالأدب،ولا أظنّ أنّ أحدًا من العلماء الكبار في هذين الحقلين المعرفيين قد شذّ عن ذلك بما فيهم الدكتور علي الوردي،الذي يعدّ خير من قرأ الثقافة العربية في نسختها العراقية،وكانت له في اللغة والأدب خطرات  لا تخطر ببال لغوي و لا ببال أديب أو ناقد.


بقي أنْ ننبّه إلى ضرورة العناية بالجوانب والمضامين الأدبية في الخطاب الاجتماعي العربي،و أظنّ أنّ السرد يؤدي دورًأ كبيرًأ في هذا الخطاب،على أمل يلتفت إليه الكتاب والباحثون.


السرد والخطاب الاجتماعي،الاثنوغرافيا والسرد، قصص علي الوردي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع