مدونة ياسر جابر الجمال


الإسكندرية بين أصداء الثقافة والشعر وعبقرية المكان

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


17/07/2023 القراءات: 268  


تعد الإسكندرية عروس البحر المتوسط من أكثر المدن جمالاً في العالم؛ لِما حباها الله من موقع متميز وطبيعةٍ ساحرة، وهواءٍ جميل، مما جعل الشعراء يتبارون في التغني بها والحديث عنها، و"المدائن كالناس لكل مدينة طابعها وملامحها وقسماتها، أو قل شخصيتها التي تنفرد بها، إذ إن لكل فرد من الناس شخصيته، التي تميزه عن غيره وتحيطه بجو خاص به، وكما تتكون شخصية الفرد من عوامل الوراثة والبيئة وملابسات الحياة المختلفة، كذلك الأمر بالقياس إلى المدينة، وكلما كانت هذه العوامل أعرق وأبعد إيغالاً وأكثر تداخلاً، كان طابع شخصيتها أكثر انفرادًا وأشد تميزًا ومن ثم نجد بين المدن – كما نرى بين الناس – مدًنا أوساطًا، تقل الفروق بينها وتكثر وجوه التشابه فيها، وأخرى بائنات بنفسها، منفردات بما خط الزمن عليها من ملامح عميقة معقدة متشابكة؛ لأنَّه قد اجتمع لها من الأسباب والملابسات في خلال التاريخ الممتد المتطاول، ما لم يجتمع للجمهرة الكبرى؛ ولأنَّه كان لها من قوة الحياة ما استطاعت أن تصمد به لأحداث الزمن وصروف الأيام، والإسكندرية من أعرق المدن تاريخًا، وأكثرها في أحداث الزمن مشاركة، وقد كان لها من موقعها، وما أتاحه لها هذا الموقع على مَّر القرون ما جنبها أن تنصاع في غيرها، كما جعلها من أبرز المدن شخصية وأقواها طابعًا، وأشدها إثارة للباحث والمتأمل والمتطلع.

ولهذه الشخصية جوانبها الكثيرة ومظاهرها المختلفة؛ ولكن الأدب هو ولا ريب أول مظاهرها، إذ كان أشدها اتصالاً بها و أقواها تعبيرًا عنها وتمثيلاً لها، وما من شيء أدل منه في حقيقة الأمر عليها، فهو ينبع من أغوارها البعيدة متغلغلاً في سائر جوانبها"( ).
ولا جناح علينا تناول المنجز الشعري السكندري واتجاهاته مستقلاً بذاته عن التيار الأدبي العام في مصر، فمدينة الإسكندرية منذ عصور موغلة في التاريخ تكونت لها شخصية مستقلة صنعها موقعها الجغرافي المتميز بين الشرق والغرب، فهي تولى وجهها شطر أوروبا، وتمد ذراعيها إلى شرق العالم العربي وغربه، وتلقي بظلالها على قارة أفريقيا السمراء، فتتلقى من هذه المنابع جميعًا قطرات من الثقافات المتباينة المختلفة، وتمزج بينها، وتنتج لنا نتاجًا جديدًا، "وإذا كان هذا مبررًا كافيًا لأن ندرس الشعر السكندري مستقلاً، فإن هناك مبررًا منهجيًا علميًا أيضًا يفرض علينا تفتيت البيئات الكبرى ودراستها وحدات صغيرة مستقلة، فإن ذلك أحرى أن يكون أكثر دقة، وأجدر أن يستقصي المسائل ويكشف صغيرها وكبيرها، وما نحن بمبتدعي هذا المنهج، ولكن لنا أسوة في أوروبا، فقد عرفته أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر عندما تنبه رجال الأدب إلى الألوان المختلفة التي تميز الآداب المحلية واللغات المحلية فدرسوها"( ).
كما يمكننا القول في النهاية أن المياه التي جرت في نهر "المدينة" المصرية إجمالا في النصف الثاني من القرن العشرين، على المستويين الاقتصادي والديموغرافي، قد أنتجت ضربا من المدنية غير المتجانسة، لا تقبل القسمة التقليدية الشائعة بين الريف والمدينة، بين الثقافتين التقليدية والحديثة، فقد تداخلت الخطابات الثقافية إلى حد الفوضى والتشظي، ولم يعد بوسع أحد تقييم المشهد الثقافي – والأدبي بالتبعية – إلا بقدر كبير من التبسيط المخل، ناهيك عن التنبؤ بحركيته المستقبلية، وغدا الاعتراف بالتنوع المربِك في المشهد أمرا مسلما به. وعليه فإن هذه الدراسة تعي أن تنوع المشهد الشعري السكندري نتيجة منطقية لتداخلات ثقافية يعيشها وطن يجمع بين أشتات من الحداثة وما قبلها وما بعدها. أي مجتمع كزموبوليتاني .
وتأسيسًا على ما سبق فإن " النقد المعاصر يسعى اليوم إلى الإهتمام بما يسمى مداخل النص ، أو عتبات الكتابة بعد أن ظل إلى وقت قريب يولي اهتمامه بالقارئ على حساب النص ، و يرجع هذا الاهتمام إلى ما تشكله هذه المداخل من أهمية في قراءة النص و الكشف عن مفاتنه و دلالته الجمالية ، هذه العتبات هي علامات لها وظائف عديدة ، فهي تخلق لدى المتلقي رغبات و إنفعالات تدفعه إلى اقتحام النص برؤية مسبقة في غالب الأحيان ... فالعتبات النصية علامات دلالية تشرع أبواب النص أمام المتلقي، القارئ و تشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه فغياب هذه العتبات أو النص الملحق – هل معناه أن القارئ سيكون عاجزا على اقتحام بنيته ؟ ، إنه سيجد نفسه أمام أبواب مغلقة، وعلية فتحها، من هنا تتجلى أهمية هذه العتبات لما تحمله من معان وشفرات لها علاقة مباشرة بالنص تنير دروبه أمام المتلقي، وهي تتميز... باعتبارها عتبات لها سياقات فيه تاريخية و نصية ووظائف تأليفية تختزل جانبا مركزيا من منطق الكتابة " ، وهذا ما نحاول رصده والوقوف عليه .


الأدب، النقد، الإبداع


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع