مدونة عبدالحكيم الأنيس


على ضفاف القرآن (9)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


07/11/2023 القراءات: 671  


أول المسلمين:
علق الدكتور الطبيب الأستاذ عباس زغنون -حفظه الله- على كلمتي: "ساعة الوحي الأولى" المنشورة ضمن مقال: "على ضفاف القرآن (8)" فقال:
هناك روائية أمريكية مشهورة باسم: لزلي هيزلتون، كتبتْ كتابًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان: "أول مسلم"، لها وقفة طويلة حول لحظات تنزّل الوحي في حراء جعلتها تعتبر ذلك دليلًا على صدق مقولته بتنزل الوحي عليه.
وقد كتبتُ شيئًا يلخص بداية هذا الكتاب، ثم شُغلت عنه، وها هي تلك الخلاصة:
"أول مسلم The First Muslim by Lesley Hazelton))
أوضحت الكاتبةُ أنها جاءتْ بها من ثلاث آيات في القرآن تطلب منه أن يقول عن نفسه "وأنا أول المسلمين" (وهذا أدق من عنوان كتابها). ووجدت آية أخرى بهذا المعنى فتكون رابعة: "وأن أكون أول من أسلم" الآية 14 من الأنعام.
وتجدني هنا أغيّر وصفها مِن كاتبة إلى باحثة، لأنها لم تسلك مسلك الكتاب في سرد السيرة، وإنما كان همها في البحث التعرف على شخصية هذا الإنسان من خلال سيرته، وكانت مصرة على التعرف على ذلك من خلال إنجازاته العظيمة كبشر أضحى أسطورة، وليس كسيرةِ مقدسٍ محفوفٍ بمعجزات ربانية. كانت ترى أن النظر إليه كبشر معجز في إنجازاته أدق وصفًا له وتبين عظمته أكثر مما لو نظرنا إليه ككائن مقدس مفعم بالمعجزات الإلهية. فالأول يتطلب جهادًا وتعرضًا لصراعات ومخاطر على مستوى البشر.
وأوضحتْ الباحثة أنها اعتمدتْ بشكل خاص على سيرة ابن إسحاق وتاريخ الطبري، وأشارتْ إلى صعوبة استخلاص الحقائق من هذه المصادر، لأن هذه المصادر كانت جامعةً لروايات كثيرة بعضها متناقض. واعتبرتْ الباحثة أن هذا مما يميز هذه المصادر وليس عيبًا فيها! حيث إنها نقلتْ الأخبار كما وصلتها دون إدخال العاطفة في تصديقها أو تكذيبها، وكل ما فعلته هذه المصادر -إن بدا الخبر غريبًا أو لا يرضيها- أن تقول: هذا ما بلغني، والله أعلم بالحقيقة!
بدأتْ بصفاته الخَلقية، وتعجبتْ مِن أمر آخر وهي أنها توقعتْ ممن آوى إلى خلوة في جبل أن يكون شاحبًا نحيفًا ضعيفًا، فإذا به يُوصف بامتلاء البدن، وبمشيٍ يناسب ذلك البدن فكأنه يتحدر مِن صبب! وكان ذا خدود وردية وأزهر أبيض، وكان وسيمًا ليس بالطويل ولا بالقصير، وكثر في وصفه ذكر ما ليس فيه! كما جاء في وصفه أنه أقنى الأنف، وهي معروفة آنذاك على أنها مِن علامات النبل والرفعة!
ثم نظرتْ الباحثة كيف تحوّل هذا اليتيم الذي أُرسل إلى البادية، ثم عملَ في التجارة، ثم أُخرج من بلده، ليعود إليها بعد ثماني سنوات فاتحًا ومنقذًا، وكيف نقل هذه الأمة إلى معرفة خالقها، وأسّس دولتها ومجتمعها، وحقق من الانتصارات ما غير وجه الأرض، بمنظومة حياةٍ جديدة.
ثم تحدثتْ عن حالةٍ من تواضعه، وعدم رغبته في التميز على أحد، وعن لباسه المتواضع أيضًا. كما عُرف عنه حتى قبل النبوة إنصافه في حل الخلافات، وعن استقلاليته دون حاجة لأن يتحيز لصالح أحد.
وتطرقتْ إلى مسألة؛ وهي ما الذي دعا هذا الزوج السعيد إلى الخلوة في غار حراء في جبل خارج مكة! هل ذهب للهدوء والبعد عن صخب المدينة؟ أم ذهب للتفكر والنظر في الكون، أم أنه ذهب لغير ذلك؛ لعلها هو أن يترك المسألة مفتوحة متسعة ليستقبل مشاعر جديدة؟ والذي يبدو واضحًا أنه لم يكن يرى نفسه متطلعًا لتنزّل القرآن أو لقاء الروح الأمين!
ولو كان استقباله له على غير ما وصَفَه لنا لظن أحدُنا أنه اختلق القصة، فصنع خاتمة تناسب ما كان يتوخاه! ومما زادها قناعةً بهذا، أن الأمر كان فجأةً عليه، فلم ينزلْ من الجبل بشعورٍ وكأنه يمشي على الهواء، وهو فرحٌ منتشٍ بأنه حاز النبوة، وحقق الوصلة بين هذا العالم والوحي! بل اعتقد أنَّ ما حصل كان غريبًا لم يدرك كل معانيه، وخاف على نفسه أن يكون ما اعتراه قد يكون مما يؤذي، حتى إنه خطر بباله القفز مِن أعلى الجبل! لم يكن يدور في خلده أنه سيلقى عليه هذا العبء الثقيل الذي لا يُحتمل.
كلُّ هذا في نظر الباحثة أعظمُ دليلٍ على أن ما حصل كان حقًا وحقيقةً، ودليل قوي على أنه بشر، كما قرَّر القرآنُ، وكما كان يحدِّث أصحابه. ومع هذا كله، فكلما قرأتَ أكثر عن هذا الرجل عجبتَ مِن عدم قدرتك على معرفته معرفةً كاملةً؛ مع أنَّ الكلام الذي جاء في الحديث عنه يفوق الوصف!
وترى الباحثةُ أن الناظر في حياة هذا الرجل قبل البعثة يرى إنسانًا "ليس أهلًا" للنبوة، لما كان مِن سلوك حياةٍ غير متميز "بنجومية". ولقد كانت هذه الليلةُ هي أهم نقطة تحول في حياة هذا النبي، ومع ذلك فإنها كانت البداية وليست النهاية. ومنها انطلق مستقبله، بكل ما في ذلك من تعقيدات دينية وسياسية".
***
بستان العارفين:
قال محمد بن واسع: «‌القرآن ‌بستان ‌العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في نزهة». حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2: 347).
فأين نحن من التنزُّه في ذلك البستان؟
***
بعد المعصية والغواية اجتباءٌ وتوبةٌ وهدايةٌ (طه: 121-122)، فلا تأسَ، ولا تبأسْ، ولا تيأسْ.
***
مشهود وموعود:
في سورة الكهف ذكرٌ لتفجير الأنهار، وتسيير الجبال، والأول مشهود، والثاني موعود، والمشهود دالٌّ بلا شك على الموعود.
***
إذا تحقَّق الإيمانُ تحقَّق الدفاعُ الرباني: قال تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) [الحج: 38].
***
ينعى القرآنُ على تقليد السابقين من غير تبصُّر، ويحذِّر مِن لقاء مصيرهم، ومن ذلك قوله تعالى:
‌(كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطتْ أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) [التوبة: 69] ).
قال ابنُ قتيبة في «غريب القرآن» (ص: 190): «{فاسْتَمْتَعُوا ‌بِخلاقِهِم} أي استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا».
ولهذا جاء بعدها: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وحبذا تتبع الآيات التي تذكر تقليدَ السابقين.
***


القرآن. تدبر. تأمل.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع