مدونة ياسر جابر الجمال


أدباء تحت الطبع.............

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


30/01/2024 القراءات: 542  


هذا عنوان لأحد الأدباء الكبار عندما كان في الجامعة طالبًا، ليس من اختياري وتأليفي، وإنما أحببت الاستعانة به، ولعلي أذكر هذه القصة فيما بعد.
الملاحظ للحالة الثقافية وما بها من إفراط في التأليف والكتابة، يرصد هذه الظاهرة بصورة مباشرة، فقد اقتحم الميدان غير رجاله، وامتطى الجواد غير فرسانه، وتقدم من لا يعلم الرواية من الدراية، فكانت النتائج كما هي الآن .
الأدب والنقد أصبحا ميدنًا لكل من شاء وقتماء شاء- كل من هب ودب-، يكتب فيما شاء تحت لافتة الإبداع، وكم اجترىء على ذلك الكثير باسم الإبداع والتجديد والتطوير.
هذا ليس إقصائًا لأحد، لكن عندما يصل الأمر إلى مرحلة العبثية، فالأمر يحتاج إلى التنبيه.
عشرات بل مئات الدواوين تطبع كل عام بأسماء عشرات الشعراء، لا يحفظ منها بيت شعر، ولا تجد فيها ماله قيمة من الناحية الموضوعية أو الفنية، لكن تزبب أقوام قبل أن يتحصرموا، وسلطت عليهم الأضواء .
كذلك عشرات بل مئات الروايات تكتب، غالبها إما منسوخة من الغرب، فتترجم ويتم تمصيرها بصورة ما فقط، أما البعض الآخر فما هو إلا مجرد كتابات سطحية لا تحمل مضمونًا أو رؤية أو غير ذلك... في نهاية الأمر يقال: الروائي الكبير... الكاتب المتفرد وهكذا...
الدراسات النقدية لم تسلم من ذلك فقد دخل عليها التزييف والتقليد المجحف حتى أصبحت مجرد نقل فقط دون تمحيص أو نقد أو رؤية، إنما هي مصطلحات رنانة وعناوين براقة ومضمون خاوي على عرشه.
كل ما عليك في هذا الزخم هو طباعة عدة دواوين أو عدة روايات، بعد ذلك تصبح كاتبًا يشار لك بالبنان، وحتى يكتمل الأمر .. عليك أن ترتب لك مجموعة الندوات ، والتوقعيات واللقاءات مع الأصدقاء ، ويحضر لك مجموعة من الناس، فتتبادلون الأدوار، وهكذا هذا يمدح ، وهذا يصف، وهذا يعلق ، وهذا يكتب دراسة عن ديوان هذا، وهكذا تسير القافلة...
الأدهى من ذلك هو الاتفاق الضمني الحادث بينهم على الكتابة والمناقشة، فإذا كتبت عني فسوف أكتب عنك، وإذا قرأت كتابي فسوف أقرء لك وهكذا ...
الأمر لا يتوقف عند هذا بل يمتد إلى الدراسات الأكاديمية، فهم يرشحون بعضهم بعضًا في الدراسات والرسائل الجامعية، وقد رأيت هذا بعيني، وغير ذلك الكثير...
إزداد الأمر سوء عندما قالت لي بعض الكاتبات أنها غير متخصصة في الأدب والنقد، وإنما مارست ذلك منذ أربعة أعوام، ولها عشرة كتب، والحكم على مثل هؤلاء مفوض للقارىء الفاضل.
يمتد الأمر بعد ذلك إلى حصد الجوائز والمنح والهبات، فإذا تقدمت بكتاب أو رواية أو قصيدة فإن الأمر محسوم سلفًا من سيفوز أو يحصد المركز الأول، وهذا أمر أصبح متعارف عليه .
لا يسعك في هذا الصدد إلا ذكر قصة "تشارل تشبلن" الممثل الكوميدي عندما عقد مسابقة باسمه تحت مسمى ( تقليد تشار تشبلن)، فذهب بنفسه متنكرًا وحصد المركز الثاني، لأن المركز الأول محجوز لابن الملك .
أرى كتابات لبعض الأشخاص عليها إقبال، وكأنها كتابات " الجاحظ " أو "المتنبي"، عندما استمعت لهؤلاء الكتاب وقرأت لهم أيقنت أن هناك وسيط بينهم وهو ( الكاتب الأصلي )، هذا الكاتب المشهور ما هو إلا مجرد شخص مزيف لا أكثر ولا أقل .
الأدهى من ذلك حالة التنكير الكبيرة لأساتذة الأجيال والكتاب الكبار، مما يؤذن بتهميشهم نهائيًا و إسدال الستار عليهم؛ حتى لا يرى الناس ابداعًا حقيقيًا، وتظل البضاعة المزيفة تحتكر السوق.. هذه خيانة ثقافية، وكما قيل:
مساوىء لو قسمت على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق

هذا الكلام وتلك السردية - قد تكون - ليست جديدة عليك أيها القارىء الكريم، فالواقع يشهد بأفضل من عشرات المقالات والورقات البحثية في هذا الصدد .
إن الحالة الثقافية بهذا التوصيف وتلك الأفعال، لن تنتج أي إبداع أو فن أو رؤية أدبية تفيد الإنسان .
حالة كهذه لا ينتج عنها إبداع بحال من الأحوال، فقد ماتت وأوشكت على البعث، فالأدب والثقافة بهذه الصورة سوف تصبح ضمن تراث الماضي والفلكور، وخصوصًا في ظل الأسباب سابقة الذكر.
هذا الكلام يمكن أن يكون ذا قيمة عندما كانت الكتابة محصورة في الدوائر السابقة، ولا يمكن لأحد أن ينفذ إلا من خلالها، لكن الآن أصبح هذا الكلام تحصيل حاصل أو مجرد رصد لظاهرة يعلمها القاصي والداني.
يمكن أن يكون هذا حجة للبعض الذي يقول إننا كتاب مبدعون لكن لم تتح لنا الفرصة، أو حاربنا كثيرا ، و تآمر علينا الآخرون.
الآن وحاليا وقبل بضع سنوات، تم كسر هذه القاعدة، ودخلنا في إطار وسياق جديد يوجه إلى أن الإبداع حق للجميع، وأن الكل يستطيع أن يكتب أو يعبر عن نفسه وعن منجزه المعرفي، وهذا تحد أصعب من الأول، فلم تعد الكتابة والتأليف والنشر حكرا على أحد، فالطفرة التكنولوجية الرهيبة فتحت الباب على مصراعيه أمام الجميع، الكل يستطيع أن يخاطب العالم، ويلتقي بالجمهور أينما كان وحيثما أراد من خلال الهاتف المحمول.
القضية لم تعد وفق الضوابط المعيارية، وإنما امتدت إلى غير ذلك، متأثرة بالسياق القائم حولنا، فالنص الجيد الذي يحمل أبعادًا معرفية مختلفة هو الذي سيبقى وسيخلد في التاريخ، أما الكتابات التي لا تعني بذلك فهي إلى زوال وإن حصدت الجوائز والمقاعد الأولى، والتاريخ خير شاهد على ذلك .
إن الفرصة سانحة.. فللإبداع الحقيقي أن يثبت وجوده، ويزاحم الزيف في كافة الحقول المعرفية، فالعملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، والقيمة تخلد أصحابها، بخلاف الثمنية تسقط في حالة وجود البديل، فكما قيل من له بديل لا ثمن له، أما ما له قيمة فلا يمكن شرائه.


أدباء تحت .. الطبع


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع