مدونة سعد رفعت سرحت


الفعل التأثيري: بين(تحقّق فعل الكلام)و(استيعاب مغزاه)و(أثره في المخاطَب)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


08/07/2023 القراءات: 1193  




خذ هذه الأمثلة:

١_كثر عدد العمال في المصنع حين نحتاجك نخبرك.
٢_أنتِ طالق.
٣_بعتك هذا الكتاب.
٤_إياكَ أنْ تكرّر فعلتك.


●في المثال(١) نحصل على ثلاث نتائج:النتيجة الأولى: قطع العامل علاقته بعمله،أمّا النتيجة الثانية فهي استيعاب العامل قصد مدير المصنع(=استغنينا عن خدماتك) أمّا النتيجة الثالثة فتتعلق بمشاعر المخاطب وأحاسيسه حين يسمع حكم الاستغناء عنه في العمل.


_فالنتيجة الأولى(الاستغناء)نتيجة محققة ملموسة بمجرد التلفظ بالفعل،لا لشيء إلّا لأنّها نتيجة مضمونة التحقيق لدى المتكلم (=مدير المصنع)نظرًا لمكانته.
_أمّا النتيجة الثانية(الاستيعاب) فمحققة أيضًا،لأن العامل استوعب المقصود بالكلام ،فقد اختار المدير طريقة تعبير مناسبة للاستغناء عن عامله.
_أمّا النتيجة الثالثة(التأثير)، ففي حاجة إلى استبطان و تخمين،فمشاعر العامل لا يمكن معرفتها على وجه التحديد،فقد ينتج عن تركه العمل الحزنُ،وقد تنتج عنه السعادة(لا ندري لعله يرى في ترك المصنع نيلًا لحريته...)ثمّ إنّنا قد نلحظ هذه المشاعر وقد لا نلحظها.


●في المثال(٢) نحصل على نتيجتين:الأولى حدوث الطلاق وفق إرادة واحدة(=إرادة الزوج)بمجرد النطق بالحكم،أمّا النتيجة الأخرى فتتعلق بمشاعر الزوجة التي لا نستطيع البتّ فيها: أ هي حزينة بذلك أم سعيدة أم تضمر إحساسًا ما،لا ندري...


●في المثال(٣)كذلك نحصل على نتيجتين:الأولى تحقّق البيع في اللحظة وِفق إرادتين(=البائع والشاري)،أمّا النتيجة الأخرى فتتصل بمشاعر الشاري،بل ربّما بمشاعر البائع أيضًا،فقد يعقب البيع حزن أو سعادة أو اكتئاب أو مشاعر أخرى،وهذه المشاعر قد تُلحظ وقد تظل مسكوت عنها.


●في المثال(٤)أيضا هناك نتيجتان،الأولى إدراك أو استيعاب المخاطب أنّ المتكلم يحذّره ،أمّا النتيجة الأخرى فتتمثّل بردة فعل المخاطب أو بالمشاعر التي تولّدت لديه(الخوف أم التهكم أم ...إلخ).


نخرج من كلّ ذلك إلى ضرورة التمييز بين ثلاثية (التحقيق) و( الاستيعاب)و(التأثير):


●فالتحقيق هو وقوع الفعل بمجرد النطق به وليس هذا داخلا في فعل التأثير بل هو مندمج بفعل القول ،كما يتضح في فعل(الاستغناء عن العامل) و(الطلاق)،فالمتكلم وهو ينطق بملفوظه يحقّق فعلي الاستغناء والطلاق..


●أمّا الاستيعاب فهو إدراك المتلقي مغزى الفعل أو فهمه على الوجه الذي أراده المتكلم(المتلقي يفهم أنّ المتكلم يُخبر،أو يُعلن،أو يهدّد....إلخ) ويتضح ذلك في المثالين(١)و(٤).


●أمّا التأثير فهو مآل فعل الكلام و النتيجة البعيدة التي تترتب عليه،فقد تكون ردة فعل لفظية(موافق، أرفض، اخرس،...)و قد تكون ردة فعل جسدية(إشارة باليد،تغيير لو البشرة،ارتجاف....إلخ) وقد تكون ردود فعل نفسية (حزن،فرح ،كآبة)


[ينظر:نظرية الفعل الكلامي،د.هشام عبد الله الخليفة:من ٨٩ إلى ٩٥]



إنّ مآل الفعل الكلامي _في الأمثلة أعلاه_ إنْ كان متعلقًا (بالتحقّق والاستيعاب)دخل في دراسة الفعل الكلامي،لأنّ هاتين النتيجتين داخلتان في نطاق اللغة ويتوقف عليهما نجاح الفعل الكلامي،فهما متحققتان أصلًا بقوة القول و ثقة المتكلم باستيعاب المخاطب قصده و ثقته بنفاذ فعله،فقوة الفعل _نظرًا لتوفّر الشروط المؤسسية_ كفيلة بتحقيقه بمجرد أن يدرك السامع مغزاه.


أمّا إذا كان مآل الفعل متعلقًا(بالتأثير) كالردات النفسية أو بالامتثال أو تحريك المشاعر ،ففي رأي أوستن من الصعب إدماجها في نظرية الفعل الكلامي،لأنه التأثير واقع خارج نطاق اللغة وليس شرطًا في نجاح الفعل الكلامي،إذ لا يمكننا التنبّؤ بمآلات الفعل،اللهمّ نعم إنّ غاية كل فعلٍ كلاميّ هي إيقاع تأثير ما في المخاطب، ولكن بمَا أنّ هذه التأثيرات قد تُحجب و تتطلب معرفتها الاستبطانَ،فالأولى أنْ تظل بعيدة عن النظرية لأنّها ليست أفعالا لغوية ،إذ قد يتعدى تأثير الفعل مقاصدَ المتكلم و تتجاوز سلطته صوب مآلات أبعد،فربّما أراد المتكلم بكلامه شيئا محدّدًا،فإذا بالمخاطب تهتز مشاعره بصورة تفوق توقعات المتكلم وأهدافه....




والحق أنّ موقف أوستن وسيرل من الفعل التأثيري غريب، وأظنّ أنّ السبب في ذلك هو الميل البراغماتي المفرط نحو (المتحقّق والمطابق للعالم الخارجي) والابتعاد عن المتوقّع أو المرجوّ لدى المخاطب،ممّا أدى إلى تركيز النظرية على الخطابات الأكثر جديّة،ومن ثمّ التركيز على الافعال المؤسسية ذات الطقوس والمراسيم التي تتحقق بمجرد النطق بها من دون المبالاة بانفعالات وآثار من تقع عليهم،فالمعول عليه في النظرية هو:كيف يتحول الملفوظ إلى فعل في حالة استعماله،أمّا الاستجابات والعواطف و ردود الافعال فشأنٌ آخر.


إنّ موقف أوستن من الفعل التأثيري لا يلغي حاجة النظرية التداولية إليه.فالخطاب_أيّ خطاب_يراد به إبلاغ رسالة و إحداث أثر في من يتلقّاه،فضلا عن أنّه لا يمكن غضّ الطرف عن الجوانب النفسية لدى المتلقي،فمثلما يعول التداوليون على نيات المتكلم وأغراضه ينبغي أن يعولوا أيضًا على استعدادات المتلقي ومدى تقبّله و الطرق الكفيلة بإقناعه ، والطرق الكفيلة بثنيه عن سلوك ما،إذ التداوليين يعولون كثيرًا على عامل القصد والنية لدى المتكلم والمخاطب في نجاعة الفعل الكلامي وتحقّقه،فنيّة المتكلم وإنْ كانت معرفتها تلزم التحري والاستبطان،بيد أنّها تعدّ شروطًا جوهرية في تحقيق الفعل الكلامي[الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي،د.مؤيد آل صوينت:٣٥]فالذي يعول على بواطن المتكلم ونياته، ما الذي يمنعه من التعويل على بواطن المتلقي وتوقّع ردات فعله؟.


إنّ كلّ خطاب ناجح _في جانب منه_ عبارة حوار يتكاشف فيه الطرفان عمّا يبطنانه،و يتبادلان نيّاتهما و يستبقان طبيعة الاستجابات عند بعضهما،فقد كان السوسيولوجيون_ من أصحاب نظرية الفعل _يدعون إلى ضرورة العناية بمواقف الكلام ومحاولة تحديد "قوة التأثير" المتوقعة مع كلّ ملفوظ في موقف ما،فلكلّ موقف لغة تناسبه(=لكلّ مقام مقال)واستعمال اللغة في موقف ما يتطلب معرفة التأثيرات المتوقعة منه،ولا أظنّ أنّ التداولية تصرف النظر عن هذه المسألة.


الفعل التأثيري_أفعال الكلام


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع