مدونة ياسر جابر الجمال


العتبتات النصية -سلطة اللغة الشعرية-

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


30/01/2024 القراءات: 439  


إننا عندما نرصد مستوى اللغة في الشعر العربي الحديث ، نجد " أن كل لغة في وجودها الفعلي، هي نص نوعي يتمتع بكفاء ة بنائية قادرة على إسقاط ماهيته في وعي متلقيه، غير أن طبيعة اللغة المخاتلة تضفي على نصها، أيًا كان نوعه، سمة أخرى ، ربما كانت مغايرة للأولى ، هي طواعيته المذهلة لفعل الواعي عليه، ومن ثم إضفاء ماهية خاصة بالوعي أكثر من خصوصيتها بالنص ، ذلك أن اللغة، حتى في أشد صورها صرامة – أعنى اللغة العملية – حمالة ذات أوجه "( ‏).
إلا أن القاموس اللغوي لدى الشعراء في العصر الحديث ظل" نفسه لم يتجاوز الشعراء استخدام السيف والرمح في وصف المعارك، رغم تطوّر الأدوات المستخدمة فيها "( ‏)، ونذكر مثالًا عن ذلك في وصف البارودي( ‏) لمعركة .
أسلَّة سيفٍ ، أم عقيقةُ بـــارقِ أضاءت لنا وهنًا سماوة بارق ؟
لوى الرَّكبُ أعناقًا إليها خواضعا بزفرة محزونٍ ونظرة وامق
في هاتين الشطرتين نجد أن البارودي وهو يمثل اتجاهًا جديدًا في الشعر بالنسبة للمرحلة الزمنية التي عاشها – الإحياء والبعث- مازال يستخدم ذات أدوات القدماء، من حيث "وصف السيف والركب كما لو أن المعارك تدور رحاها في زمنه بالسيف والرمح، وليرجع بألفاظه إلى الماضي التليد ويحييه من جديد، وإن تغير الزمن والناس، فالشاعر التقليدي بذلك لم يدرك بعد انفصاله عن الأقدمين، ولم يستطع أن يدرك زمنًا شعريًا متبدلًا عن الأزمنة الماضية التي اعتبرها النموذج، ونجدها نماذج كثيرة عن هذا القاموس التقليدي بمختلف حقوله الدلالية وأشكال تراكيبه من الناحية النحوية والبلاغية"( ‏).
والشاعر الحديث أو المعاصر لنا يحتاج أن يتناول اللغة بصورة تتناسب مع ما يطرحه من قضايا وأفكار، لا ينبغي عليه أن يستعير قوالب الماضي ويسكب فيها تجارب الحاضر، ففي هذه الحالة ستخرج باهته، "فالشاعر مع اللغة أشبه بمن يحاول أن يقيم علائم واضحة داخل ماء متحرك .، فهو يجابه إلى جانب الحركة التي لا تكاد توقف، التشابه الذي لا يكاد يتناهى.، إنه يستخدم " لغة الناس " ولا مناص له من ذلك .، ويجد بين يديه نفس الكلمة التي قيلت آلاف المرات .، وعلقت بها من خلال ذلك كله عشرات الإيحاءات، واستخدمت من قبل في معارض باردة وفاترة ودافئة وساخنة وتعرضت من ثم لعوامل التمدد والانكماش، وهو عليه من خلال ذلك كله، ومع ذلك كله، أن يستخدم نفس الكلمة استخدامًا جديدًا مستقلًا تنسب بها إليه، وأن يردد شكوى الشاعر القديم ( ما أرانا نقول إلا معارًا )، لكنه حين يلتقط الكلمة يحاول أن يكسبها معنى الاستقلالية والتلاؤم مع ما حولها والملكية الفردية لها ، وإذا عدنا مرة أخرى إلى طريقة صهر العناصر لكي تتلاءم مع بعضها البعض من خلال كيمياء الشعر، فإن مفردات اللغة في القصيدة لابد أن تمر بدورها بمرحلة مشابهة، إنها تحتاج لأن تكتسب درجة حرارة متقاربة، ودرجة بريق متواز، ونفسًا شعريًا متجانسًا تصبح اللغة من خلاله ملكا لقائلها ولا يصبح هو ملكا لها"( ‏).
هذا يؤكد لنا بصورة واضحة أن الشعراء أو الأدباء لابد أن يكون لديهم اللغة الحيَّنية – لغة الوقت- وإلا سوف تمارس اللغة عليهم سلطات متعددة "لأن الوظيفة الأساسية للغة البشرية هي السماح لكل إنسان أن يوصل لنظائره تجربته الشخصية " ( ‏)، وهذا" الأمر يختلف بالنسبة إلى الشاعر حيث يأتي الإفصاح والبيان عن طريق اللغة باعتبارها خطوة في سبيل الكشف عن النفس وعن الكون أيضًا " ( ‏).
وفي هذه الخطوة" يصبح الشاعر في تعامله معها ، وفي رغبته في إعطاء لون من الاستقلال لتجربته عارفًا بالحدود المختلفة التي تختلط في أعين الآخرين .، وتتميز بفضل تجربته إن كانت ناجحة ، ويصبح شأنه مع ذلك الموج المتحرك حركة دائمة والمتشابه تشابها لانهائيا ، شأن البحار الخبير الذي يفرق بين موجة له وموجة عليه ، والذي يعرف خطه الملاحي فوق صفحة الماء وكأنه طريق معبد محدد الجانبين ، يراه بوضوح ، ويعرف انحناءاته ومخاطره ، ويشعرنا بمتعة الحركة فيه، وبأننا نملك البحر ولا يملكنا، ونغوص معه داخله فنكتشف الأسرار دون أن يبتلعنا، لكن هذا الاستقلال الذي يمكن أن تتشعب مظاهره وتنطبق على كثير من جوانب العمل الشعري ، تقابله خاصية أخرى هي الانتماء وهي خاصية تتميز بها القصيدة الجيدة .، فهناك دائمًا " الحبل السري " الذي يربط بين القصيدة وشيء ما في عالمنا والذي تتوقف على درجة إحكامه وإشعاعه ومدى مباشرته أو عدم مباشرته ، ومدى تعدد واتساع وحدات الشبكة التي ترتبط به أو ضيقها وانحصارها يتوقف على ذلك كله أشياء كثيرة ترتبط بمعايير تقييم القصيدة، وقد تختلف من عصر إلى عصر ومن أدب إلى أدب . لقد كان الشاعر التقليدي يربط مباشرة بين القصيدة وموقف معين في زمان معين لشخص معين ، عندما كانت قصيدته تتصدرها عبارات مثل " وقال يمدح فلانا وقد فعل كذا " و " وقال يواسيه وقد حدث له كذا " وهو من خلال ذلك الربط كان يظهر لنا " الحبل السري " واضحًا .، لكن ذلك الحبل كان خادعًا في كثير من الأحايين ، فلم تكن المياه كلها تصب في ذلك الاتجاه، ولا كان الإشعاع يركز على هذه البقعة وحدها ، وإلا لما بقى لنا من ديوان المتنبي شيئ . ولكن دائرة التبعية كنت تتسع فتشد إليها كثيرًا من المواقف، واشعاعات الضوء كانت تتسرب فتغمر كثيرًا من النفوس وهي من خلال ذلك تتخطى حاجز الزمان والمكان، وجاءت فترة على القصيدة الحديثة حاولت أن تنكر فيها وجود " التبعية " تخوفًا من الوقوع في دائرة " شعر المناسبات " ، وأن تجعل نفسها تدور في " المطلق " أو أن توهم بذلك أو أن تتكلفه، وكثيرًا من الأزمات التي وقعت فيها القصيدة الحديثة جاءت من وراء الجري وراء ذلك السراب " المطلق " دون اصطناع جيد لأدواته الضرورية .، لقد كان " جوته " يقول : إنني لم أكتب شيئا إلا ووراءه مناسبة ما .


السلطات المتعددة... اللغة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع