ثويبة في صحيح البخاري
د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees
23/10/2022 القراءات: 1614
من الأهمية بمكان للباحث والواعظ وهما يتكلمان في الدين مراجعة النصوص، والحفاظ على ألفاظها، وقراءة ما قاله العلماء في شرحها، وعدم التقليد في الاستشهاد، وعدم الاسترسال مع ما احتجنته الذاكرة من مسموعٍ أو محفوظٍ تتلاشى دقته مع الأيام.
ومن ذلك خبر ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، وعتق أبي لهب لها.
فما سبب العتق، ومتى كان، ومتى حصل الربط بينه وبين فرح أبي لهب بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء في صحيح البخاري في ذلك، وما قال أهل الحديث والسير؟
هذا ما أبينه هنا نقلًا من صحيح البخاري، والفتح والإصابة لابن حجر، والروض الأنف للسهيلي. - وكل ما كان بين معقوفين فهو زيادة مني-.
قال الإمام البخاري في «الصحيح» (5/ 1961): «... عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته:
أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها: أنها قالت: يا رسول الله، انكحْ أختي بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في الخير أختي، فقال النبي: إن ذلك لا يحل لي. قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة؟ قال: بنت أم سلمة. قلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن.
قال عروة: وثويبة مولاةٌ لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُريَه بعضُ أهله بشرِّ حِيْبة، قال له: ماذا لقيتَ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم، غير أني سُقيتُ في هذه بعتاقتي ثويبة».
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 145-146):
"قوله: "وثويبة مولاة لأبي لهب".
قلتُ: ذكرَها ابنُ مندهْ في "الصحابة"، وقال: اختُلف في إسلامها.
وقال أبو نُعيم: لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غيره، والذي في السِّير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتتْ، ومات ابنُها مسروح.
قوله: "وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم" ظاهرُه أنَّ عتقه لها كان قبل إرضاعها، والذي في السِّير يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة [كذا، والصواب: بعد الهجرة، وانظر الإصابة 8/60]، وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل.
وحكى السُّهيلي أيضًا أن عتقها كان قبل الإرضاع، وسأذكرُ كلامه.
قوله: "أُريه" -على البناء للمجهول-.
قوله: "بعضُ أهله" بالرفع على أنه النائب عن الفاعل.
وذكر السُّهيلي [أي في كتابه "الروض الأنف"]، أن العباس قال لما مات أبو لهب [بعد وقعة بدر]: رأيتُه في منامي بعد حول في شر حال، فقال: ما لقيتُ بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين. [ولم يَذكرْ السهيلي مصدره، وبيان المصدر هنا مهم جدًّا لا سيما في جملة: إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين].
قال [أي السهيلي، لا العباس كما ظنَّ بعضُ مَنْ نقل عن ابن حجر]: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرتْ أبا لهب بمولده فأعتقها.
قوله: "بشرِّ حِيْبة"، أي سوء حال.
وقال ابنُ فارس: أصلها الحوبة، وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حِيبة منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها...
قوله: "ماذا لقيتَ؟" أي بعد الموت.
قوله: "لم ألقَ بعدكم، غير أني" كذا في الأصول بحذف المفعول.
وفي رواية الإسماعيلي: لم ألق بعدكم رخاء.
وعند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: لم ألق بعدكم راحة.
قال ابنُ بطال: سقط المفعول مِن رواية البخاري، ولا يستقيم الكلام إلا به.
قوله: "غير أني سُقيتُ في هذه" كذا في الأصول بالحذف أيضًا.
ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة: وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه.
وفي رواية الإسماعيلي المذكورة: وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.
وللبيهقي في "الدلائل" من طريق كذا مثله بلفظ يعني النقرة إلخ.
وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سُقي من الماء.
قوله: "بعتاقتي" بفتح العين.
في رواية عبد الرزاق: بعتقي. وهو أوجهُ. والوجه الأولى أن يقول بإعتاقي؛ لأن المراد التخليص من الرق.
وفي الحديث دلالةٌ على أن الكافر قد ينفعه العملُ الصالحُ في الآخرة، لكنه مخالفٌ لظاهر القرآن، قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا).
وأُجيبَ أولًا: بأن الخبر مرسلٌ، أرسله عروة ولم يَذكر مَن حدَّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه.
ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعدُ فلا يحتج به.
وثانيًا: على تقدير القبول فيُحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا من ذلك بدليل قصة أبي طالب كما تقدَّم أنه خُفف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح.
وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار، ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابًا من بعض.
قلت: وهذا لا يرد الاحتمالَ الذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه؟
وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه.
وقال ابنُ المنير في "الحاشية": هنا قضيتان:
إحداهما محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلًا من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء، كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفيًا وإثباتًا.
قلت: وتتمة هذا أن يقع التفضلُ المذكورُ إكرامًا لمَن وقع من الكافر البرُّ له، ونحو ذلك، والله أعلم".
وحبذا أن يُكتب بحث مفصل مدلل عن حياة ثويبة.
ثويبة. مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع