مدونة عبدالحكيم الأنيس


هذه الدنيا فهل من معتبر؟ (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


30/11/2022 القراءات: 516  


بعث أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في خلافته وفدًا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء مِنْ مياه العرب عنده قصور مشيدة، وهناك مواش عظيمة ورقيق كثير، ورأوا نسوةً كثيرة مجتمعات في عُرسٍ لهن، وجاريةً بيدها دفٌّ تقول:
معاشرَ الحسّادِ موتوا كمَدا ... كذا نكونُ ما بقينا أبدا
فنزلوا بقربهم، فأكرَمهم سيدُ الماء واعتذرَ إليهم باشتغاله بالعُرس، فدعوا له وارتحلوا، ثم إنَّ بعضَ أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن، فمروا بالقرب من ذلك الماء، فعدلوا إليه لينزلوا فيه، فإذا القصور المشيدة قد خربتْ كلها، وليس هناك ماء ولا أنيس، ولم يبق من تلك الآثار إلا تلٌّ خرابٌ، فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نَقْبٍ في ذلك التل، فسألوها عن أهل ذلك الماء، فقالتْ: هلكوا كلهم. فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت: كانت العروس أختي، وأنا كنتُ صاحبة الدف. فطلبوا أن يحملوها معهم، فأبتْ وقالتْ: عزيزٌ عليَّ أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصيرَ إلى ما صارتْ إليه. فبينما هي تحدِّثُهم إذ مالتْ فنزعتْ نزعًا يسيرًا ثم ماتتْ، فدفنوها وانطلقوا.
***
حُمِلَ إلى سليمان بن عبدالملك في خلافته مِن خراسان ستةُ أحمالِ مسكٍ إلى الشام، فأُدخلتْ على ابنه أيوب وهو وليُّ عهده، فدخل عليه الرسولُ بها في داره، فدخلَ إلى دارٍ بيضاء وفيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ بياضٌ وحليتهم فضة.
ثم دخل إلى دارٍ صفراء فيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ صفرٌ وحليتهم الذهب.
ثم دخل إلى دارٍ خضراء فيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ خضرٌ وحليتهم الزمرد.
ثم دخل على أيوب وهو وجاريته على سريرٍ فلم يعرفْ أحدَهما من الآخر لقرب شبههما، فوضع المسك بين يديه فانتهبه كلَّه الغلمانُ.
ثم خرج الرسولُ فغابَ بضعة عشر يومًا ثم رجعَ فمرَّ بدار أيوب وهي بلاقعُ فسأل عنهم؟ فقيل له: أصابهم الطاعون فماتوا.
***
كان يزيدُ بن عبدالملك -وهو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبدالعزيز- له جارية تسمى حَبَابة، وكان شديدَ الشغف بها، ولم يقدرْ على تحصيلها إلا بعد جهدٍ شديدٍ، فلما وصلتْ إليه خلى بها يومًا في بستانٍ وقد طار عقلُهُ فرحًا بها فبينما هو يلاعبُها ويضاحكُها إذ رماها بحبة رمانٍ أو حبة عنبٍ -وهي تضحك- فدخلتْ في فيها فشرقتْ بها فماتتْ، فما سمحت نفسُهُ بدفنها حتى أراحتْ ، فعُوتِبَ على ذلك فدفنها، ويُقال: إنه نبشها بعد دفنها.
ويُروى أنه دخلَ بعد موتها إلى خزائِنها ومقاصيرِها ومعه جاريةٌ لها فتمثلتْ الجارية ببيت:
كفى حزنًا بالواله الصبِّ أن يرى ... منازلَ مَنْ يهوى معطلةً قفرا
فصاح وخرَّ مغشيًا عليه، فلم يفقْ إلى أن مضى هويٌّ من الليل، ثم أفاق فبكى بقية ليلته ومِنَ الغد، فدخلوا عليه فوجدوه ميتًا.
***
قال بعضُ السلف: ما مِن حَبْرةٍ إلا يتبعها عَبرة، وما كان ضحكٌ في الدنيا إلا كان بعده بكاء.
***
مَنْ عرَف الدنيا حقَّ معرفتها حقرَها وأبغضها كما قيل:
أما لو بِيعتْ الدُّنيا بفلسٍ ... أنفتُ لعاقلٍ أنْ يشتريها
ومَنْ عرَف الآخرة وعظمَتها رغبَ فيها.
عباد الله:
هلموا إلى دارٍ لا يموتُ سكانُها، ولا يخربُ بنيانُها، ولايهرمُ شبّانُها، ولا يتغيرُ حسنُها وإحسانُها، هواؤُها النسيمُ، وماؤُها التسنيمُ، يتقلَّبُ أهلُها في رحمةِ أرحمِ الراحمين، ويتمتعون بالنظرِ إلى وجههِ كلَّ حين: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
***
قال عونُ بن عبدالله بن عتبة: بنى ملكٌ ممَّنْ كان قبلنا مدينة فتنوّق في بنائها ، ثم صنعَ طعامًا ودعا الناسَ إليه، وأقعدَ على أبوابها ناسًا يسألون كلَّ مَنْ خرجَ: هل رأيتم عيبًا؟ فيقولون: لا. حتى جاء في آخر الناس قومٌ عليهم أكسيةٌ فسألوهم: هل رأيتم عيبًا؟ فقالوا: عيبين. فأدخلوهم على الملك فقال: هل رأيتم عيبًا؟
فقالوا: عيبين.
قال: وما هما؟
قالوا: تخربُ، ويموتُ صاحبُها.
قال: فتعلمون دارًا لا تخربُ، ولا يموتُ صاحبُها؟
قالوا: نعم. فدعوه، فاستجابَ لهم، وانخلعَ مِنْ ملكه، وتعبَّدَ معهم.
فحدَّث عونٌ بهذا الحديث عمرَ بن عبدالعزيز، فوقع منه موقعًا حتى همَّ أن يخلع نفسَه مِنَ الملكِ، فأتاه ابنُ عمّه مَسْلمةُ فقال: اتقِ الله يا أميرَ المؤمنين في أمة محمد فو اللهِ لئن فعلتَ ليقتتلُنَّ بأسيافهم .
قال: ويحك يا مَسْلمة حُمِّلتُ ما لا أطيق. وجعلَ يردِّدها ومسلمة يناشده حتى سكن.
***
بنى بعضُ ملوكِ العرب الخورنقَ والسديرَ فنظرَ إلى ملكه يومًا فقال: هل علمتم أحدًا أُوتيَ مثلَ ما أوتيتُ؟
فقالوا: لا. ورجلٌ منهم ساكتٌ فقال: أيها الملكُ إنْ أذنتَ لي تكلمتُ.
فقال: تكلَّمْ.
قال: أرأيتَ ما جمعتَ أشيءٌ هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيءٌ كان لمن قبلك وزال عنه وصار إليك وكذلك يزول عنك؟
قال: بل كان لمنْ قبلي وصارَ لي ويزولُ عني.
قال: فسُررتَ بشيءٍ تزولُ عنك لذتُهُ، وتبقى تبعتُهُ عليك، تكونُ فيه قليلًا وتُرْتَهنُ به طويلًا؟! فبكى وقال: أين المهربُ؟
قال: إمّا أنْ تقيم وتعمل بطاعة ربك، وإمّا أن تنخلعَ من ملكك، وتقيم وحدك، وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلتُ ذلك فما لي؟
قال: حياةٌ لا تموتُ، وشبابٌ لا يهرمُ، وصحةٌ لا تسقمُ، وملكٌ جديدٌ لا يبلى.
فقال: فأي خيرٍ فيما يفنى؟ والله لأطلبنَّ عيشًا لا يزول أبدًا. فانخلع مِنْ ملكهِ، وسار في الأرض، وفيه يقول عديُّ بنُ زيد أبياته المشهورةَ السائرةَ:
أيها الشامتُ المُعيّرُ بالدهـ .. ـرِ أأنتَ المبرأُ الموفورُ
أم لديكَ العهدُ الوثيقُ مِنَ .. الأيامِ بل أنتَ جاهلٌ مغرورُ
مَنْ رأيتَ المنونَ أخلدنَ أم مَنْ .. ذا عليه مِنْ أنْ يُضامَ خفيرُ
أين كسرى كسرى الملوكِ أنوشر .. وان أم أين قبلَهُ سابورُ
وبنو الأصفرِ الكرامُ ملوكُ .. الرومِ لم يبقَ منهمُ مذكورُ
وأخو الحَضْرِ إذ بناهُ وإذ دجـ .. ـلةُ تُجْبى إليهِ والخابورُ
شادَهُ مَرْمرًا وجلَّله كلـ .. ـسًا فللطيرِ في ذراهُ وكورُ
لم يهبْهُ ريبُ المنونِ فبادَ الـ .. ـمُلكُ عنه فبابُهُ مهجورُ
وتذكَّرْ ربَّ الخورنقِ إذ أشـ .. ـرفَ يومًا وللهُدى تفكيرُ
سرَّهُ مالُهُ وكثرةُ ....


تقلبات الدنيا


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع