مدونة د. أسماء صالح العامر


القوالب العلمية وتأسيس الوعي الجزء الثالث

د. أسماء صالح العامر | Asma saleh Al amer


06/12/2023 القراءات: 170  


(3)

القوالب العلمية وتأسيس الوعي


وأما المقام الثاني: قراءتها في سياقها:

مما ابتُليَ به المشهد العلمي المعاصر جزّ العبارات من سياقها، والتقاطها من بين أخواتها اللاتي يتضح بهن المعنى ويكتمل بمجموعها دون آحادها، فمن اقتبس كلمة أو كلمتين من كاتب أو باحث دون مراعاة سياقها كان كمن قرأ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين} وسكتَ ولم يُكملْ، وفكرة السياق عموما واعتبارها في المعنى، والكشف عن المراد، لها شأن كبير في تراثنا العلمي؛ لهذا لا ينبغي للباحث إغفالها وعدم مراعاتها.
وهذه العبارة: "نضج واحترق" اقتطعت من سياقها، واشتُهر لها عند البعض معنى خاص غارق في السلبية بمعزل عن سياقها الذي أتت فيه، فعند فئام من المحصلين للعلم أن الفن الذي قيل عنه: نضج واحترق كالحديث مثلا يُشاع أنه علم انتهى فيه البحث، ولا مجال للإضافة فيه بأي وجه من الوجوه، وعليه فالباحث حين يأتي لمثل هذه العلم مصطحبا معه هذه العبارة سيكون لمفهوم التقليد دور كبير في تشكيل وعيه وفكره دون مراعاة الأدلة والقرائن!!

وبالرجوع لسياق العبارة في مصدرها السابق نجد غير هذا المعنى، فالزركشي أورد العبارة في سياق ذكره لأنواع الفقه وتعداد المعاني التي يفيدها، حتى وصل به المقام للنوع العاشر، فيقول: (1/71) "العاشر: معرفة الضوابط التي تجمع جموعا، والقواعد التي تُردُّ إليها أصولا وفروعا، وهذا أنفعها وأعمها، وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقة".
فقس هذا المعنى الذي ذكره الزركشي للفقه مع معنى العبارة تجد أن فقه الفروع خاصة ليس فيه ما يمكن اعتبار نضوجه واحتراقه على التمام (كما في العبارة)، بل تأمل الكلمات التي استخدمها للتعبير؛ تجد أن دلالاتها تُضاد المعنى السلبي للعبارة كقوله: الضوابط.. والقواعد.. والاجتهاد.. وأصول الفقه.. فأنت تلحظ أنّ هذه المفردات كالآلة والأداة التي تُحفِّز الذهن وتضبط حركته لتحقيق الاجتهاد واستنباط الأحكام، والإتيان بالجديد من الآراء دون توقف، وهذا من أتمّ المعاني للفقه وأنفعها، فكيف يقال: أنه نضج واحترق ولا يمكن الإتيان فيه بجديد؟! وقل مثل ذلك في علوم الحديث وغيرها!
ثم يُتبع الزركشي حديثه السابق بقوله: فائدة.. ويذكر العبارة (نضج واحترق) بتمامها، ويقول بعدها مؤكِّدًا على معنى الإضافة والإبداع: (1/72) ".. قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السرق".
فما قبل العبارة وما بعدها يُخالف القول المتداول الذي تُفهم به، وهذا ما يعني على الأقل إعادة النظر فيها وفي معناها، بل يمكن أن يقال للزركشي بناء على المعنى المستفيض لها: كيف ساغ لك أن تدعوَ للإبداع والاختراع في البحث عموما وقد نوّمتَ العقل وحقنتَ أوردته بـ"نضج واحترق"؟! فالمعنى المشهور للعبارة يحتاج للمراجعة والنظر، ولا يضير أحدا أن يكون لهذه العبارة معنى صحيحا عند الزركشي أو غيره، ولكن مما لا شك فيه بطلان المعنى الذي يشاع لها بناء على التقرير السابق، وهذا غاية ما يراد إيصاله هنا، مع الإشارة والتنبيه لما يمكن أن يحدثه عدم التدقيق والرجوع للأصول ومراعاة السياق من سوء الفهم والخطأ في التقرير.

وبعد، فالمحصّل أن من هذه العبارات التي شاعت على الألسنة ما هو متهافت ومتناقض، غير مبني على دليل ولا برهان ولا واقع، بل جلها مرسل هكذا دون محاولة الرجوع لمنشئها وأصلها، ولو لم تأخذ هذه العبارة (وما يماثلها) حجما كبيرا في الوسط الشرعي وتؤثر فيه، ما ذكرها أحد، ولا احتاج للرد عليها وبيان ضعفها.
وفي الختام لا أتمنى أن يقال: عقولنا هي التي احترقت ونضجت فلم تعد قادرة على البناء المعرفي الفاعل، ولا على البحث العلمي المجرد!!


قوالب ٣


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع