تماسك القصيدة المدورة(اندماج الكتابي بالشفوي)
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
20/06/2023 القراءات: 768
إنّ الوزن الشعري يقوم بدور تماسكي على الصعيدين:النحوي و الدلالي،سواء في القصيدة العمودية أم في قصيدة التفعيلة.و كون الوزن الشعري عنصرًا إجباريًا لا يلغي ذلك أثرَ الشاعر في التعبير عن مقاصده وفرض ذاتيته على الوزن. لذا ينبغي على الدراسات اللسانية النصية ألّا تتغافل هذه المسألة عند تحليل القصائد،وبالأخص القصيدة المدورة التي تضرب أنموذجًا لنصٍّ يستوي في جملة واحدة أو سطرٍ واحد !(١).
هذه المقطوعة التي تظهر في الصورة مثال للقصيدة المستوية في سطر طويل،التقطتُها من مجموعة الشاعر العراقي نضال العياش وهو يعلن عن صدورها اليوم على صفحته الشخصية.
و كما ترون: المقطوعة مدوّرة بدءًا من شطرها الثالث حتى نهايتها، إذ لا يُحسن الوقوف على أيّ سطر منها عروضيًّا، باستثناء السطرين الأولين والسطر الأخير (إنّي أحبكِ هكذا(٢)_/أنا من رأى_/إنّي أحبك هكذا)
عند هذا الحدّ يبرز سؤال: هل يمنع التدويرُ السكتةَ عند نهاية السطر فعلًا؟
بكلّ تأكيد لا. فعند كلمة(تذكرين)ترغمك علامة الاستفهام على السكوت هنيهة،وعند(أكتبُ)يرغمك التنقيط"...."على سكتة أخرى،مثلما ترغمك علامتا التنبيه(!)عليها نهاية هذين السطرين(لا تردي/لا يهمّ)،إذن فالسكتة التي يمنعها الوزن تتيحها علامة الترقيم، فالوزن عنصر زمني شفهي،و الترقيم عنصر مكاني كتابي،وبين الاثنين علاقة اكتمال وتعاون وليس ثمة صراع بين الكتابة والصوت كما هو شائع و متجذر زورًا في التاريخ البشري.
إنّ من فضائل التدوير ومحاسنه أنّه يدمج السمعي بالبصري والعكس صحيح،و هذه السمة لا يؤتاه إلّا شاعر متمكّن من صنعته و يعي ما يريد،وإلّا فإنّ التدوير ليس قضية عروضية وليس مسألة كمالية يستغلها الشاعر لبيان قدرته على تدوير أسطره كما يشاء فهذا أمر مفروغ منه...،بل هو في الأساس قضية رؤية و وعي.
وعندما نتحدث عن "رؤية الشاعر و وعيه"نكون قد دخلنا في دائرة(القصدية) التي هي أحد أهم معايير النص،ويراد بهذا المعيار عند النصيين :تلك الخطة السابقة في ذهن الناص والمسؤولة عن تصميم النص(٣)فالشاعر يعي ما يصنع وهو على وعي بالصورة التي جاءت عليها كلماته.
في المقطوعة تغيب القافية ولكن الشاعر يعوض ذلك بوسائل تماسكية و جمالية أخرى،على أن نازك الملائكة فسرت تغييب القافية تفسيرًا حربيًّا بما لا ينسجم مع الرقة التي عهدناها منها،ولكننا لا نلومها على ذلك،فقد كتبت مقالها بالتزامن مع أوجاع النكسة ١٩٦٧(٤)، إذ التدوير_بتعبير نازك_((قد أجهز على القوافي وطردها طردًا تامًّا وسحب جثثها بعيدًا عن أعين القراء)).
إنّ الشاعر إذ يغيّب القافية،يعوّضها بالتكرار و الترصيع و التوازي،وهي عناصر تواسي الأذن عمّا كانت تتوقّعه(=رنّة القافية)،بما يعني أنّ الكتابي ما يزال يحفل بالشفويّ ويستدعيه،فبين الاثنين كما قلنا علاقة وئام وألفة إنْ بقيت المسألة بعيدة عن "السلطة"(٥)و فروضها.
انظر في هذه الأسطر:
كي يصير القلب أوسعَ
كي يصير دمي أشفَّ
........
إني أراك الآن أوضح
هكذا !.
في هذه الأسطر لا تنتظر القافية،بل تنتظر اكتمال الفكرة،فإن تكن رنة القافية غائبة عن الأذن، فإنّ مجئ السطرين الأولين متوازيينِ على صيغة نحوية(٦) واحدة(كي+فعل ناقص+ اسمه+ خبره) يغنيه عن تلك الرنة،و إلّا فترصيع الأسطر بتكرار صيغة (أفعل)عزاءٌ كبير للأذن.
عندما يتعايش الكتابي والشفوي في نصّ ما،تأكّد بأنّك أمام نصّ قلق متوتر: يحنّ إلى الصوت في الوقت الذي يشغله المصير ويثقله، بالضبط كالذي يرقد على سرير الموت تتجاذبه قوتان تحاصرانِ وعيه: الحنين إلى صوت الماضي والتفكير بما هو آتٍ،ففي هذه اللحظة دون كلّ اللحظات يعي الإنسان موقعه حقّ الوعي(إنّي أراكِ الآن أوضح ....هكذا)،في هذه اللحظة يريد أنْ يقول كلّ شيء،لكنّ رمال المصير تثنيه،ولعلّ هذا التوتر بين الصوت والفكرة يفسّر لنا مجئ فن التوازي كقيمة صوتية في الوقت الذي يكتفي فيه النص بعلامات الترقيم كقيمة كتابية،فإذا كان التوازي يجسّد حاجة الشاعر إلى قول أشياء كثيرة في لحظة واحدة،فإنّ الترقيم يعبّر عن حاجته إلى الأناة والتبصّر والعودة إلى الذات،ومن ثمّ الاقتصاد في القول:(الآن أكتبُ....../لا تردّي! / لا يهمُّ ! ) فالكتابة خير عزاء عن غياب الصوت،و لِمَ لا؟.أ ليست الكتابة ذاكرةً بديلة؟!. إنّ فعلها لا تقل عن حبّة الأسبرين! .
من خلال قراءاتي لنضالِ العياشْ منذ سنوات ،ألمح أنّ قصيدته_بحقّ_لم تعد قصيدة صوت،بل أصبحت قصيدة إصابعَ وصوتٍ معًا، إنّه يبحث عن مسار آخر،ويغيّر وجهة المسدس على حدّ تعبيره،إنّه إذ عثر على "أصابعه" استطاع أن يعيد القصيدة الى عصمته،و إذ احتفظ بالصوت استطاع أنْ يرمّم الأغنية.
________________
١_انظر:سايكولوجية الشعر،نازك الملائكة:٨٧.كذلك:الغابة والفصول،د.طراد الكبيسي:٨٤.
٢_يستهل القصيدة بالعنوان(إنّي أحبكِ هكذا)على طريقة من يجعل العنوان الجملة الأولى في النص،بل لحظت أنّ المجموعة تحمل العنوان ذاته،مما يعني أنّ الشاعر متحمس وهو يدخل القصيدة من "عتبة العنوان" بلا احم ولا دستور....
٣_ينظر:الحلقة النقدية:٤٧.
٤_ لنازك الملائكة في كتابها(قضايا الشعر المعاصر) موقفٌ من التدوير،فقد استثقلته في قصيدة التفعيلة،أمّا في مقالها الشهير(سيكولوجية التدوير)فقد تقبتله وأقرت بما يحمله من قيمة جمالية،غير أنّها فسرته تفسيرا غريبًا،إذ جعلته وسيلة "غير واعية" عند الشاعر للتعبير عن الاحساس بالذل السياسي امام اسرائيل....
٥_أقصد بالسلطة كلّ ضروبها: الثقافية، الاجتماعية، السياسية، المنصة،المنبر.....إلخ
٦_ التكرار النحوي(=التوازي) بوصفه وسيلة تعويضة يسجل حضورا لافتًأ في القصائد المدورة.
تماسك القصيدة المدورة _قصيدة السطر الواحد_الجملة الواحدة_اندماج الكتابة بالصوت
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة