مدونة عبدالحكيم الأنيس


أفنان من "الفنون" لأبي الوفاء بن عقيل

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


29/12/2023 القراءات: 373  


من كتب الإسلام المذكورة كتاب "الفنون" للإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي البغدادي (ت: 513)، وهو كتاب كبير جدًّا، ولم يظهر منه سوى جزء واحد، وكان ابن الجوزي قد اختصره في مجلدات، وضاع المختصَر أيضًا، وقمتُ بإعادة تدوينه.
وهذه نقولٌ أخرى مما رأيتُه في النظر في الكتب:
***
قال سبط ابن الجوزي (ت: 654) في ترجمة أبي منصور عبدالملك بن محمد بن يوسف، البغدادي، في «مرآة الزمان في تواريخ الأعيان» (19/ 204):
"لم يكن في زمانه مَن يُخاطَب بالشيخ الأجلِّ سواه، ولد سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، وكان أوحدَ زمانه في فعل المعروف، والقيامِ بأمور العلماء وأهل الصلاح، وقمع أهل البدع، وافتقادِ المستورين، ودوامِ الصدقات، وكان يتصدَّق سِرًّا، ويكره أن يظهر عنه، فإذا ظهر قال: إنما أنا واسطة وليس مني. وكان مُحترمًا عند الخلفاء والملوك والأمراء.
وقال ابن عقيل في "الفنون": كان عينَ زماننا ما قُهِرَ على رأيٍ، ولا كُسِرَ له غرض، وكان يتَّجِر وينفق على أشياخ الحنابلة الذين ليس لهم بالسلطان وصلة، واختصَّ بأصحاب عبدالصمد الزاهد، وهم أئمة المساجد والزُّهَّاد، واستبعد الوُعَّاظ، وأكرم بني هاشم والأشراف بالعطاء الجزيل، وأنعَمَ على العرب والعجم والتركمان والغلمان، واحتاج إلى جاهه الخلفاءُ والملوكُ، وما كان يُسمع منه كلمةٌ تدلُّ على فعل قبيحٍ فعلَه، ولا إنعامٍ أسداه، وصمد لحوائج الناس، وكان يُعظِّم من يقصِده في حاجةٍ أكثرَ من تعظيم مَنْ يقصِده في غير حاجة.
ولمَّا استولى البساسيريُّ على بغداد وانحدر إلى واسط أخذ ابنَ يوسف معه فنزل على طحَّان، فلمَّا رحل عنه أعطاه شيئًا، وانقضت مدة وإذا بالطحان قد قدم بغداد هاربًا من ديونٍ لَزِمَتْه، فدخل عليه فأكرمه وأنزله في حجرةٍ وكساه، وأمر بعض أصحابه أن يسأله عن سبب مقدمه، فقال: هربتُ من ديون الناس عليَّ وليس لي قدرةٌ على وفائها. فأرسل عبدالملك سفينةً وحمل فيها من الفاكهة والكسوة والتُّحف شيئًا كثيرًا، وأعطى لمن يُسفِّره بها مئتي دينار، وقال: سَلْ عن بيت فلان الطحان، وأوصِلْ ما في هذه السفينة إلى أهله، وسَلْ عن غرمائه وصالحهم بهذه المئتي دينار، وخُذْ منهم الوثائق. فمضى الرجل، وفعل ما أمره، وعاد وظنَّ الطحَّان أنه قد نسيه، فأحضره وقال: ما سببُ قدومك؟ فأخبره، فقال: خُذْ هذه الوثائق. وأعطاه مئة دينار».
***
وقال ابن مفلح المقدسي (ت: 763) في «الفروع» (3/ 180-181):
«قال ‌ابن ‌عقيل في "‌الفنون": من أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والتناصح. فهذا أشقُّ ما تحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبُه على الطباع وتنفرُ منه نفوس أهل اللذات، ويمقتُه أهل الخلاعة، وهو إحياء للسنن، وإماتة للبدع. إلى أن قال: لو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهِدوا، فمتى رام المتدينُ إحياء سنةٍ أنكرها الناس وظنوها بدعة، ولقد رأينا ذلك، فالقائمُ بها يعد مبتدعًا، كمَنْ بنى مسجدًا ساذجًا، أو كتبَ مصحفًا بلا زخرف، أو صعد منبرًا فلم يتسود، ولم يدق بسيفٍ مراقي المنبر، ولم يصعدْ على علَم ولا منارة، ولا نشرَ علمًا، فالويل له مِنْ مبتدع عندهم، أو أخرج ميتًا له بغير صراخ ولا تخريق، ولا قراء، ولا ذكر صحابةٍ على النعش ولا قرابةٍ».
***
وقال الشبلي (ت: 769) في «آكام المرجان في أحكام الجان» (ص: 31- 32):
«قال أبو الوفاء بنُ عقيل في "الفنون":
سأل سائلٌ عن الجن فقال: الله تعالى أخبر عنهم أنهم مِن نار بقوله تعالى :{والجان خلقناه من قبل من نار السموم} وأخبر أن الشهب تضرهم وتحرقهم فكيف تحرق النار النار؟
الجواب وبالله التوفيق: اعلم أن الله تعالى أضاف الشياطين والجن إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار، والمراد به في حق الانسان أن أصله الطين وليس الآدمي طينا حقيقة، لكنه كان طينًا، كذلك الجان كان نارًا في الأصل، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: عرض لي الشيطان في صلاتي فخنقتُه فوجدتُّ برد ريقه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لقتلتُه.
ومَن يكون نارًا محرقة كيف يكون ريقه باردًا؟ ولا له ريق رأسًا، لكن كان يقول: له لسان وذؤابة من نار محرقة، فعلم صحة ما قلنا، والنبي صلى الله عليه وسلم شبَّههم بالنبط، ولولا أنهم على أشكالٍ ليست نارًا لما ذكر الصور وترك الالتهاب والشرر. انتهى».
وقال (ص: 149):
«حكى ابنُ عقيل في "‌الفنون" قال:
كان عندنا بـ "الظَّفرية" [محلة معروفة في بغداد في العصر العباسي] دارٌ كلما سكنها ناسٌ أصبحوا موتى، فجاء مرة رجلٌ مقرئ فاكتراها وارتقبناها فبات بها وأصبح سالمًا، فتعجَّب الجيران، فأقام مدة ثم انتقل، فسُئل فقال: لما بتُّ بها صليتُ بها العشاء وقرأتُ شيئًا من القرآن وإذا شابٌّ قد صعد من البئر فسلمّ عليَّ فبُهت فقال: لا بأس عليك، علِّمني شيئًا من القرآن، فشرعتُ أعلِّمه، ثم قلت: هذه الدار كيف حديثها؟
قال: نحن جن مسلمون نقرأ ونصلي وهذه الدار ما يكتريها إلا الفساق، فيجتمعون على الخمر فنخنقهم.
قلت: ففي الليل أخافك فتجئ نهارًا.
قال: نعم.
قال: وكان يصعد من البئر بالنهار، وألفتُه، فبينما هو يقرأ إذا بمعزمِ في الدرب يقولُ: المرقى من الدبيب، ومن العين، ومن الجنِّ.
فقال: أي شيء هذا؟
قلت: معزم.
قال: اطلبْهُ. فقمتُ وأدخلتُه، فإذا أنا بالجنيّ قد صار ثعبانًا في السقف، فعزم الرجلُ، فما زال الثعبانُ يتدلى حتى سقط في وسط المندل، فقام ليأخذه ويضعه في الزنبيل فمنعتُه، فقال: أتمنعني مِنْ صيدي؟ فأعطيتُهُ دينارًا وراح، فانتفض الثعبانُ وخرج الجنيُّ وقد ضعفَ ونحلَ واصفرَّ وذابَ.
فقلت: ما لك؟
قال: قتلني هذا بهذه الأسامي، وما أظنني أفلح، فاجعلْ بالك متى سمعتَ في البئر صراخًا فانهزمْ. قال: فسمعتُ في الليل النعي فانهزمتُ.
قال ابنُ عقيل: وامتنع أحدٌ أن يسكن تلك الدار بعدها. والله أعلم».
***


الفنون. ابن عقيل. بغداد. المكتبة الإسلامية.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع