مواعظ العلماء ودموع الخلفاء والأمراء
د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees
28/03/2023 القراءات: 1075
في نفس الإنسان حاجة إلى التذكير والتبصير، فإذا سمعت صوتًا صادقًا انبعث ما كان كامنًا وهاج ما كان ساكنًا، ويحدثنا التاريخ عن مواقف مؤثرة جمعتْ بين سلطان وعالم فتحركتْ في الأول داعية الخير وأحبَّ أن يسمع ما يُعينه على نفسه وهواه، وألهمَ الله تعالى ذلك العالم كلمات خالصة مخلصة لا يريد منها دنيا، ولا جزاء ولا شكورًا.
ولو جُمعت هذه المواقف كان في جمعها -إن شاء الله تعالى- ما ينفع القارئ والسامع،
وذُكر في تراثنا: "مقام العلماء بين يدي الأمراء" لأبي سعد السمعاني، في إحدى عشرة طاقة، ولا تعرف له نسخة.
وطُبع في بغداد: "مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء" منسوبًا إلى أبي حامد الغزالي، ولا تصح النسبة، فهل له علاقة بكتاب أبي سعد؟ هذا ما فيه مزيدُ حاجة من البحث والتتبع والنظر في الإسناد المذكور فيه.
وفي ذلك أيضًا: "مواعظ الملوك والسلاطين" وغيره لابن الجوزي.
***
وهذا موقفٌ وقع لأبي جعفر المنصور، عسى أن يكون فيه عبرة وذكرى:
روى ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (8/ 59) بسنده إلى «الفضل بن يعقوب قال:
حدثني عمّي إسحاق بن الفضل قال:
بينا أنا على باب المنصور وإلى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع (عمرو بنُ عبيد) على حمارٍ، فنزل عن حماره، ونحى البساط برجله، وجلس دونه، فالتفت إليَّ عمارة فقال: لا تزال "بَصرتُكم" ترمينا بأحمق. فما فصل كلامه من فيه، حتى خرج الربيع وهو يقول: أجبْ أمير المؤمنين، جعلني الله فداك. فمرَّ متوكئًا عليه، فالتفتُّ إلى عمارة فقلتُ: إن الرجل الذي استحمقتَ قد دُعيَ وتُركنا.
قال: كثيرًا ما يكون مثل هذا.
فأطال اللبثَ، ثم خرج الربيع وعمرو متكئ عليه، وهو يقول: [يا] غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حتى علا سرجه، وضم إليه نشر ثوبه، واستودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلًا لو فعلتموه بولي عهدكم لكنتم قد قضيتم حقَّه.
قال: فما غاب عنك -واللهِ- مما فعله أميرُ المؤمنين أكثرُ وأعجبُ.
قال: فإن اتسع لك الحديثُ فحدثنا.
فقال: ما هو إلا أن سمع أميرُ المؤمنين بمكانه، فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودًا، ثم انتقل هو والمهدي، وكان على المهدي سوادُه وسيفُه، ثم أذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فردَّ عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه على فخذه، وتحفى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسمّيهم رجلًا رجلًا وامرأةً امرأةً، ثم قال: يا أبا عثمان، عظني.
فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم.
(والفجر ، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك) يا أبا جعفر (لبالمرصاد).
قال: فبكى بكاء شديدًا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا في تلك الساعة،
وقال: زدني.
فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسَك منه ببعضها.
واعلمْ، أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد مَنْ قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى مَنْ هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة.
قال: فبكى والله أشدَّ من بكائه الأول حتى جف جفناه.
فقال له سليمان بن خالد: رفقًا بأمير المؤمنين، قد أتعبتَه اليوم.
فقال له عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا خفتَ على أمير المؤمنين أنْ بكى من خشية الله عز وجل؟
فقال له أميرُ المؤمنين: يا أبا عثمان، أعني بأصحابك أستعن بهم.
قال: أظهر الحق يتبعك أهله.
قال: بلغني أن محمد بن عبدالله بن حسن كتب إليك كتابًا.
قال: قد جاءني كتابٌ يشبه أن يكون كتابه.
قال: فبم أجبتَه؟
قال: أو ليس قد عرفتَ رأيي في السيف أيام كنتَ تختلفُ إلينا، إني لا أراه.
قال: أجل، ولكن تحلفُ لي ليطمئن قلبي.
قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك بقية.
قال: أنت واللهِ الصادقُ البرُّ.
ثم قال: قد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك.
قال: لا حاجة لي فيها.
قال: والله لتأخذنها.
قال: والله لا آخذُها.
فقال له المهدي:
يحلف أميرُ المؤمنين وتحلفُ؟! فترك المهدي وأقبل على المنصور وقال: مَن هذا الفتى؟
قال: هذا ابني محمد، هو المهدي وولي العهد.
قال: والله لقد أسميتَه اسمًا ما استحقه عمله، وألبستَه لباسًا ما هو من لبس الأبرار، ولقد مهدتَّ له أمرًا أمتع ما يكون به، أشغل ما تكون عنه.
ثم التفت إلى المهدي وقال له: يا ابن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأنَّ أباك أقدر على الكفارة من عمك.
ثم قال: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟
قال: نعم.
قال: وما هي؟
قال: لا تبعثْ إليَّ حتى آتيك.
قال: إذن لا تأتيني».
***
وجاء في «تاريخ مدينة السلام» (14/ 64) ما يكملُ تفاصيل ذلك اللقاء:
«عن عقبة بن هارون، قال: دخل عمرو بنُ عبيد على أبي جعفر المنصور، وعنده المهدي بعد أنْ بايع له ببغداد، فقال [المنصور]: يا أبا عثمان عظني، فقال: إنَّ هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقيَ في يد غيرك ممَّنْ كان قبلك لم يصلْ إليك، فأحذركُ ليلةً تمخضُ بيوم لا ليلة بعده، وأنشده:
يا أيهذا الذي قد غرَّه الأملُ ... ودون ما يأملُ التنغيصُ والأجلُ
ألا ترى أنما الدنيا وزينتُها ... كمنزلِ الركبِ حلوا ثمتَ ارتحلوا
حتوفُها رصدٌ وعيشُها نكدٌ ... وصفوها كدرٌ وملكُها دُولُ
تظل تُفزع بالروعات ساكنَها ... فما يسوغ له لينٌ ولا جذلُ
كأنه للمنايا والردى غرضٌ ... تظل فيه بناتُ الدهر تنتضلُ
تديرُه ما أدارته دوائرُها ... منها المصيبُ ومنها المخطئ الزللُ
والنفسُ هاربةٌ والموتُ يرصدُها ... فكل عثرةِ رجلٍ عندها جللُ
والمرءُ يسعى بما يسعى لوارثه ... والقبرُ وارثُ ما يسعى له الرجلُ
قال: فبكى المنصور».
***
مواعظ. خشوع. دموع.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع