مدونة د. أسماء صالح العامر


القوالب العلمية وتأسيس الوعي

د. أسماء صالح العامر | Asma saleh Al amer


06/12/2023 القراءات: 202  


(١)

القوالب العلمية وتأسيس الوعي

اللغة هي البنية الأساسية للتفكير الإنساني، وهي التي تمد الأفكار بالروح واليقظة، وتمنحها الفاعلية والتأثير في المشهد الثقافي والعلمي؛ فهي ليست وعاء للأفكار فحسب، بل هي المؤثر الفعلي في بناء الأفكار وتَشكّلها وتكوين القناعات، والإنسان (كما يقال عنه) ابن بيئته، يقال عنه أيضا: ابن لغته ومفرداته التي يستخدمها للتعبير عن أفكاره!
وفي تراثنا الإسلامي ثمة عبارات موجزة أشبه بالأمثال العربية، أصبحت كالقوالب تدور على الألسنة كثيرا؛ لرشاقتها وسبكها وسهولة تَذَكّرها لا يُلتفت في العادة لتأثيرها على الجانب الثقافي والوعي الإنساني؛ علما بأن من هذه الكلمات ما يكون مُحمَّلا بخلفيات معرفية، ومُشْبَعا بمفاهيم موغلة في السلبية والتضييق، وأفكار مغلوطة توجه مسار الذهن، وتؤطر حركته دون أدنى مستويات التفكير في صحة مضمونها!
ومن غرائب العقل الإنساني (المتأثر بتلك الكلمات) أن يحولها لبراهين عقلية، وحجج نصية يلوكها، ويقذف بها في وجه كل من نازعه في صحتها، أو خالف دلالة منطوقها، فإذا قال لك المرء: "من تمنطق فقد تزندق" فهذا معناه القول الفصل الذي لا نقاش بعده، ولا سؤال أو استفسار فضلا عن النقد والتحليل!
وقد تجد الذين يُمسِّكون بها لديهم نوع من العجز اللغوي، وضعف الإدراك للمعاني، وعدم القدرة في الكشف عن رأيه والبرهنة عليه، فهو قد لا يُبينُ عن حجته إن وجدت؛ لهذا يسكن لمثل هذه القوالب التي تسعفه عند المحاججة ومضايق الخلاف؛ ليقطع النزاع. ويتشبث بها أكثر مَن مَنحَ إجازة مفتوحة لفكره، وخدّر ذهنه وعقله عن ممارسة أي نقد بَنَّاء للتراث البشري، وغالبا ما تجد مثل هذه العبارات سوقا رائجة وفاعلا عند المبتدئين في مراحل التحصيل العلمي؛ لنقص التجربة وعدم الممارسة للنقد، فالمتعلم للأسف يَبدأ رحلته العلمية بمثل هذه العبارات المجملة مستظلا بظلالها دون محاولة تعليلها قبولا أو ردا، فما إن يقطع شوطا في العلم حتى تجده يضيق ذرعا بكل مَن يُمارس نقدا أو استشكالا لما اعتاد عليه سنين عددا، ومما ساهم في نشرها كثيرا عند هؤلاء ما يسمى بكتب "آداب الطلب"، وهي تراث زاخر فيه الغث والسمين، وما يتقيد بحال دون حال!
والكلمات المعنية بالحديث هنا كثيرة ومتعددة، وموضوعاتها في أبواب مختلفة، وعند التفصيل لا بد أن يتنوع التعامل معها من عبارة لأخرى، فمقام التفصيل ليس كمقام الإجمال، فمن تلكم الكلمات:
• لحوم العلماء مسمومة!
• من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه!
• من تمنطق فقد تزندق!
• نضج واحترق هذا العلم!
• من حفظ الأصول حاز الفنون!
• لا تأخذ العلم عن صُحفي!
• احفظ فكل حافظ إمام!
• لا تقلْ قولا ليس لك فيه إمام!
• من كتب الحواشي ما حوى شيء!
• ما ترك الأول للآخر شيء!
• من تتبع رخص العلماء تزندق!
• كم ترك الأول للآخر.
• زلة العالم مضروب لها الطبل.
• هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
• ثَبِّت العرش ثمّ انْقُشْ.
• وهكذا... إلى آخر تلكم العبارات.
وربما يقال ابتداء (في بعضها دون الدخول في مضامينها وقراءة خلفياتها):
إنها عبارات مسبوكة في المبنى، خفيفة على السمع، مثلها مثل أي نص أدبي تراثي رائق، لكنّ ذلك لا يمنع من وضعها على مشرحة النقد والتحليل متى تحولت لسانا ناطقا، وضميرا مستترا يعكس جملة من المفاهيم المعيقة للتفكير في فضاءات التراث الإسلامي؛ فمثلا عبارة "لحوم العلماء مسمومة" يستتر خلفها سوء التعامل مع التقديس ومفهوم العالم، وهل كل مشتغل بالعلم يعتبر عالما؟ وهل النقد العلمي وكشف الشبه المغلوطة يناقض احترام العلماء؟ وهكذا الأمر في عدد من تلكم العبارات!

=


قوالب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع