مدونة أ د محمد مصطفى أحمد شعيب
الصيام سبيل للتقوى ومدرسة للطاعة والامتثال
فضيلة الدكتور محمد مصطفى أحمد شعيب | Dr. Mohammed Mostafa Ahmed Shoaib
21/03/2025 القراءات: 36
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ما الذي يريده الله منا في الصيام؟ هل يريد الله جل وعلا تجويعنا وتعطيشنا؟ هل يريد الله جل وعلا المشقة لنا والتعب؟ بالطبع لا، لكن الصوم عبارة عن تدريب على الطاعة والامتثال، فعندما يأمرك الله جل وعلا بترك المفطرات - من أكل وشرب وجماع للزوجة وتعمد قيئ ... الخ، وهي في الأصل حلال – في أوقات معينة بنية الصوم، إنما هو تدريب على الامتثال لطاعة الله جل وعلا، وطريق للوصول إلى التقوى وترك سائر المحرمات والمعاصي والتي هي منهيٌ عنها بالأساس.
وهذا هو المشار له بقول الله جل وعلا في سورة البقرة: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فالغاية من الصيام هي الوصول لتقوى الله جل وعلا الملك العلام.
وهي الغاية نفسها من سائر العبادات، فالمقصود من العبادات التي نتعبد الله جل وعلا بها هو الوصول إلى تقوى الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
وتأملوا قوله سبحانه وهو يبين شعيرة النُّسك والذبح: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36، 37]، فالبدن والهدي والأضاحي التي تذبحونها أيها الحجاج والنساك والمضحون لن يرجع إلى الله منها اللحم والدم، وإنما يرجع إليه منها تقواكم وطاعتكم وامتثالكم أمره سبحانه وتعالى.
ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الطاعات وترك المعاصي والمحرمات.
والفقهاءُ يُعرِّفون الصيامَ بأنه تركُ الطعامِ والشرابِ والجماعِ وسائرِ المفطراتِ الحسيةِ من طلوعِ الفجرِ الصادقِ إلى غروبِ الشمس بنيةٍ، وهذا الصيامُ ما لم يصاحبُهُ امتناعٌ عن المحرماتِ فإنه لا قيمة له في الحقيقة، فحقيقةُ الصيامِ هي الامتناعُ عن المفطراتِ والمعاصي والمحرمات.. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لم يَدَعْ قوْلَ الزُّورِ وَالعملَ بِه، والجهلَ، فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ في أَن يَدَعَ طَعامَهُ وشرابَهُ) رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
وفي الحديث: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ، فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ) رواه ابن خزيمة.
وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ).
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: أَهْوَنُ الصِّيَامِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ).
وقال جابرُ بن عبد الله رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذبِ والمحارمِ، ودعْ أذى الجارِ، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومِكَ، ولا تجعلْ يومَ صومِكَ ويومَ فِطْرِك سواءً.
وقال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على أن المراد بالصيام: من صام عن المعاصي قولا وفعلا).
والعاقل يتفكر في الصيام: إذا كنت في الصيام تمتنع اختيارًا عن أشياء أباحها الله لك (الأكل والشرب والجماع ومباشرة الزوجة) هذه أمور في الأصل حلال، فكيف تتركها طاعة لله، وفي الوقت ذاته ترتكب المعاصي والمحرمات التي هي محرمة وممنوعة طيلة العمر؟!
ولهذا ختمت آيات الصيام بآية عجيبة، قد يظنُّ من لا يتأمُّلُ القرآنَ بأنها لا علاقة لها بالصيام، لكنها عند التأمل والتدبر، علاقتها وثيقة بالصيام، قال جل وعلا في نهاية الحديث عن أحكام الصيام والاعتكاف {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
والمعنى: إذا كنتم تتركون الطعام والشرب وجماع الزوجة الذي هو حلال لكم في غير وقت الصيام، تتركونها طوعًا واختيارًا طاعة لله في وقت الصيام، فمن باب أولى ترك المحرمات المستمرة في جميع الأوقات ومنها أكل أموال الناس بالباطل.
وهذا الصيام (الذي هو امتناع عن المفطرات يصاحبه امتناع دائم ومستمر عن المحرمات) هذا الصيام هو الذي يعظُمُ أجرُهُ، ويتضاعفُ ثوابُهُ بغير حساب، في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).
الصيام، التقوى، الامتثال، الطاعة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع