مدونة عبدالحكيم الأنيس


الرجل الصالح عودة أيوب الكبيسي (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


22/06/2024 القراءات: 531  


تتمة ما سبق:
فنصحوني بأنْ أكلم المدير العام وكان اسمُه ميسرًا، فذهبتُ إليه فوجدتُّه مسافرًا، فقال لي نائبُه: نحن لا نستطيعُ أن نقول لك احلقْ لحيتك حتى يأتي المدير العام فينظر في شأنك، ثم بينما أنا في عملي وقد خرجتُ من المكتب لدفع بعض الأعمال، إذا بي أبصرُ رجلًا ومعه ضابط الأمن والرجل الذي وقف ضدي، وهم يتجولون في زيارة تفقدية، فقال لي بعضُ الموظفين: ذاك هو المدير العام فاشرحْ له قضيتك، فلما جاء عند مكتبي قلت له: إن عندي مشكلة، فوضع يديه على المكتب وكان واقفًا وقال باهتمام: ما هي مشكلتك؟ فقصصتُ عليه قصتي وما أعاني من الذهاب إلى الفلوجة والمجيء إلى هذا المكان البعيد، فقال: اكتبْ تفاصيل عملك السابق قبل نقلك إلى هنا، فقال ضابطُ الأمن محمد المشهداني جزاه الله خيرًا: إنَّ تفاصيل عمله واضحة، لقد داوم هنا عشرين يومًا ما تأخرَ خمس دقائق، وكذلك كان في عمله السابق، فقال المدير العام: الآن يُكتب انفكاكُه مِن هنا، ونقله إلى الفلوجة! وأكدَّ ذلك بقوة، فحاول الذي يقف ضدي أن يعرقل المسألة فقال: حتى نجد بديلًا عنه، فقال: لا، الآن، فقال ضابطُ الأمن: أنا البديلُ عنه حتى نجد بديلًا، فلما ذهب المديرُ العام قال لي ضابط الأمن: يا عودة، إن الدوام الآن قد انتهى والموظفون على وشك الخروج أو قد خرجوا، إن شاء الله غدًا من الصباح تجد كل شيء جاهزًا، فقلتُ له: لا مانع لو تأخر الأمر إلى أسبوع، فلما علم زملائي قالوا: لا بدَّ أن تعمل لنا إفطارًا في الصباح، فقلتُ أهلًا وسهلًا، وفعلًا عملتُ لهم إفطارًا، وهيأتُ إفطارًا خاصًا لضابط الأمن وفاءً بما قام به، فلما جئتُ في الصباح ومعي الإفطار إذا به يسلمني خطابَ النقل كاملًا وموقعًا، فقدَّمتُ له الإفطار فقال: لقد خربتها، أي أفسدتَّ ما صنعتُ، فقلتُ له: يا حضرة الضابط، لو كان هذا في البداية لصح كلامك، أما أنْ يكون بعد أنْ تمَّ كلُّ شيء فأرجو أنْ تقبله مني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أسدى إليكم معروفا فكافئوه) الحديث .. فقبلَه، فشكرتُه وحمدتُّ الله تعالى على ذلك، ثم إني بقيتُ في عملي في الفلوجة حتى وقت إحالتي على التقاعد بسبب السنِّ، فالحمدُ لله رب العالمين.
ومِن طريف ما حدثني به لدى زيارته في السليمانية، أنه حدثني عن نفسي أني قد قصصتُ قصة في بعض دروس الوعظ خلاصتُها: أنَّ رجلًا من الأثرياء مِن غير المسلمين أمر بأن يبنوا له دارًا لا عيب فيها، فلما اكتمل بناءُ الدار دعا أهل مدينته وطلب منهم أن يكتشفوا عيبًا ما فيها، فلم يستطيعوا، وقدرًا كان في المدينة ثلاثة رجال ليسوا من أهلها، فقال: مُروهم أن ينظروا فيها فإن وجدوا عيبًا فليخبروني، فجاء الأول فلم يكتشف شيئًا وكذلك الثاني، أما الثالث فقال: وجدتُّ فيها عيبين! فتعجب الرجل وقال: عيبان! قال: نعم، قال: ما هما؟ قال: أما الأول: فإن صاحبها سيموت، وأما الثاني: فإنها ستزول، فقال الرجل: وهل هناك دار صاحبها لا يموت، وهي لا تزول؟ قال الرجل: نعم، قال: ما هي؟ قال: الجنة، إن صاحبها هو الله وهو حي لا يموت، وهي باقية لا تزول، فحرص ذلك الرجلُ على طلب الجنة فأسلم وحسن إسلامُه. فقلت لأخي: أنا لا أذكر ذلك فقال: ولكني أذكر هذه القصة جيدًا، وقد سمعتُها منك بكل تأكيد.
وحدَّثني أني قد قلتُ في بعض خُطب الجمعة وكنتُ أتكلم عن حِجاب المرأة: أخي المصلي، أنتَ الذي تركتَ زوجتي تبدو في حجابها شاذةً في المجتمع، لأنك لم تحجبْ زوجتك، أخي المصلي، تتباكى على الإسلام، وأنتَ تضربُه بخنجر مِنْ خلف!
ذكرتُ هذا ـ وهناك غيره ـ لما فيه من فوائد، وللدلالة على حرص أخي عودة وتتبعه لكلامي وحفظه لكثير منه، ونشره بين الناس فجزاه اللهُ عني خيرًا، ومدَّه بالصحة والعافية، ومنَّ علينا وعليه بحُسن الختام آمين).
***
هذا ما كتبه الشيخ عيادة رحمه الله عن أخيه عودة، وفي ذلك صورة جميلة من صور البرِّ والوفاء بين الإخوة.
وأمّا الخبر الذي نقله الحاج عودة عن أخيه الشيخ عيادة رحمهما الله تعالى فلعل أصله ما جاء في كتاب "قصر الأمل" للإمام ابن أبي الدنيا (ص: 192):
قال رحمه الله: "حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني، قال: حدثنا بقية، عن سلمة بن خالد، أن ملكًا من الملوك ابتنى قصرًا وقال: انظروا مَن عاب منه شيئًا فأصلحوه، وأعطوه درهمين. وكان فيمن أتاهم رجلٌ، فقال: «في هذا القصر ‌عيبان اثنان». قالوا: وما هما؟ قال: «ما كنتُ أخبرُ بهما إلا الملك»، قال: فأُدخل عليه. فقال: ما هذان العيبان؟ قال: «‌يموتُ ‌الملكُ، ويخربُ القصرُ»، قال: صدقتَ. ثم أقبلَ على نفسه".
***


تراجم. العراق. العصر الحديث.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع