هذا الكتاب مادة معرفية من تأليف الكاتب الصحفي والقاضي والمحامي والمناضل الإصلاحي محمد المهدي بن الناصر، في واقع اجتماعي وسياسي متبلّد في خمسينات وستينات القرن العشرين لغاية حصول الاستقلال. فلئن كانت حياة بن الناصر حافلة بالعطاء في مسيرته الحياتية التي امتدت من سيدي علي بن عون في اتجاه قفصة ثم تونس العاصمة ومن قبلها قابس والكاف في إطار امتهانه للقضاء والمحاماة، فإنّ هذه الفترة أمكن اعتبارها أوجه العطاء والنضال التي خاضها الرجل رفقة زملائه في مسيرة الكفاح الوطني من أمثال الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وصالح بن يوسف ومحمود الماطري والمنجي سليم وغيرهم...ذلك أن ما ميّز خطابه هو النفس الثوري العميق الذي يرتكز على إعمال العقل والمنطق. هذا ما نتحسسه في معظم مقالاته موضوع هذا الكتاب، التي يبدو فيها منبهرا مكبّرا لما آلت إليه الشعوب المتطورة من نضج معرفي وحسن تدبير، مما بوّأها أن تكون في عداد البلدان المتقدمة. فكان توقه وهو يجاهد بالفكر والساعد من أجل استقلال تونس محرّضا في المقام الأول على إنشاء تعليم عصري وتعميمه فكان في هذا السياق من المؤسسين الأوائل لجمعية مقاومة الأمية وأشرف بنفسه على بناء عديد المدارس في مختلف أنحاء الجمهورية بما في ذلك المناطق الريفية النائية مستغلا بذلك علاقاته وموقعه الاجتماعي والنضالي من أجل تحريض السكان على جمع التبرعات وبناء المدارس على أن تتولى الجمعية تعيين مدرّس في كل مدرسة. وفي هذا السياق كان قد أوفد ابنه محمد المنصف الذي ولد في العاصمة ونشأ فيها إلى الالتحاق بالتدريس كمعلم في مدرسة التوفيق ببن بشير في سيدي علي بن عون، والتي كانت أول نواة مدرسية تؤمّ التلاميذ من مختلف العشائر المجاورة لها. مثلما كان متحمسا للإصلاح الزراعي فعمل مع رفاقه في النضال على بعث الاتحاد العام التونسي للفلاحة وكان هو أمين ماله هذا فضلا عن المناصب التي تقلدها في سلك المحاماة. كما أنه كان مناضلا فذّا في تخليص الأراضي الاشتراكية فتراه يتقلب بين العروش محرّضا على غراسة الأشجار والاستقرار وبين المنابر القانونية موضحا حقيقة أراضي العروش وأحقية السكان بملكيتها فكان له الفضل في هذا المقام في تحرير هنشير سيدي علي بن عون من الاشتراكية وقد خصّها بأكثر من مقال كما هو مبين في متن هذا الكتاب والتي افتتح أحدها بعبارة "سجّل يا تاريخ" فارتأينا اختيارها لتكون عنوان هذا الكتاب الذي جمعنا فيه مختلف أعماله.
و تجدر الإشارة إلى أن تغييب محمد المهدي بن الناصر من الذاكرة الوطنية التونسية ونعني هنا من تاريخ الحركة الوطنية أمر له ما يبرره، عندما نمعن في عمق رؤيته الإصلاحية من خلال كتاباته النقدية والتحريضية. فطموحه كان أرقى من مجرد استقلال داخلي منقوص لا زلنا نعاني تبعاته لحد الآن، ومثل هذه النقطة هي التي كانت مدار الاختلاف الحاد بين أقطاب قادة الكفاح من أجل التحرر ونقصد تحديدا الشق البورقيبي واليوسفي.
يكون مفيدا أن نشير، أن مــــــــحمد المهدي بن الناصر رغم علاقته الحميمية بالزعيمين، إلا أنه في نهاية المطاف أمكن اعتباره من أنصار الشق اليوسفي ولئن كان قد لعب في أكثر من مناسبة- من خلال موقعه الحزبي باعتباره كان من أبرز مناضلي الحزب الحر الدستوري أو علاقته بأبرز الفاعلين في الساحة النضالية- في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء من أجل تونس موحّدة. ولكن أبت مفاسد السياسية ودسائسها إلا أن تحدث شرخا أليما في جسد الحركة الوطنية منذ اعتلاء بورقيبة سدة الحكم وبداية ملاحقته لمخالفيه فكان محمد المهدي بن الناصر أحد الذين لحقتهم سياسة الإقصاء والتعنيف، حيث تمّ اقتياده من بيته الكائن في باردو من قبل رجال بورقيبة بل وتعنيفه بضراوة والزج به في أحد معاقل الايقاف التي خصصها الحبيب بورقيبة آنذاك لمعارضيه أو ما بات يعرف إلى يومنا هذا بالشق اليوسفي. لكن تدخّل بعض أقرانه ونخص بالذكر منهم الأديب محمود المسعدي مع بورقيبة منوّهين بخصال الرجل العلمية والنضالية ودوره في الحركة السياسية التونسية ليتم إطلاق سراحه، وبقي مقيما في بيته مدة طويلة حتى تعافى من أثار العنف التي لحقته ومن ثمة اعتزاله السياسة كليا.
يكون مفيدا أن نشير، أننا في سياق اهتمامنا بسيرة الرجل وترتيب نصوص هذا المؤلّف، أفادنا أحد أبنائه بأن والده ترك مخطوطا كنا قد اطلعنا عليه وعملنا على تقديمه للمكتبة الوطنية ليخفظ في الذاكرة الوطنية وهو عبارة عن رواية خطّها بيده، بخطّ عربي زيتوني رائع، ونحن الآن نعكف بالتنسيق مع دار الكتب( المكتبة الوطنية) على مراجعته ومن ثمّة طبعه ليتمّ نشره في القريب العاجل.
"
سعيد الحسين عبدلي | Said Elhussein Abdelli | 736