مدونة أ.د/ منى محمود عبد الجليل/ أستاذ الإعلام والعلاقات العامة بجامعه الازهر- مصر


الهدي النبوي في مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة: قراءة في حادثة الإفك

أ.د/ منى محمود عبد الجليل | Mona Mahmoud Abdalglil


9/8/2024 القراءات: 127  


تعد الشائعات وما تحمله من أخبار كاذبة من أخطر الأسلحة النفسية التي يمكن أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي السياسي والديني لأي مجتمع، وذلك لما لها من قدرة على نشر الفوضى والبلبلة وتعكير صفو العلاقات بين الأفراد والجماعات.
وكان النبي ﷺ منذ بزوغ فجر الإسلام يعمل على توعية المجتمع المسلم بخطورة الشائعات وتأثيرها السلبي، وكان يحث أصحابه على الصدق والأمانة في نقل الأخبار، ويؤكد على أن نشر الشائعات يعتبر من الكبائر التي قد تؤدي إلى الهلاك، فقد قال النبي ﷺ: "كَفَىٰ بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ" (رواه مسلم)، هذا الحديث يحثنا على ضرورة التأكد من صحة المعلومة قبل نشرها، ومع ذلك فقد تعرض المجتمع الإسلامي في عهد النبي ﷺ إلى العديد من الشائعات، والتي ضرب لنا فيها الرسول ﷺ مثلا في التعامل معها بحكمة وتروي، مما أدى إلى بناء مجتمع قوي ومترابط، يعتمد على الصدق والشفافية في التعامل، ويقف في وجه الفتن التي كادت أن تمزق نسيجه.
‏ومن هذه الشائعات التي تعرض لها النبي ﷺ وحكى لنا عنها القرآن الكريم هي حادثة الإفك، التي وقعت في السنة الخامسة أو السادسة للهجرة بعد غزوة بني المصطلق، حيث كانت السيدة عائشة رضي الله عنها- زوجة النبي ﷺ- ترافقه في هذه الغزوة، وعند العودة إلى المدينة، فقدت السيدة عائشة عقدها فتأخرت عن القافلة للبحث عنه، وفي أثناء عودتها، وجدها الصحابي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن الجيش، فأركبها على ناقته وأعادها إلى المدينة، وعندما رأى المنافقون عائشة رضي الله عنها مع صفوان، أطلقوا شائعة زعموا فيها حدوث شيء غير أخلاقي بينهما، وانتشرت هذه الشائعة بين الناس بسرعة، مما سبب ألماً شديداً للنبي ﷺ ولعائشة رضي الله عنها وأرضاها.
وعندما وصلت الشائعة إلى النبي ﷺ، لم يتعجل في تصديق الشائعة أو اتخاذ قرار، بل انتظر حتى يتبين الحق، وظل النبي ﷺ لفترة من الزمن لا يتحدث في الأمر، مما يعكس مدى حكمته وصبره ﷺ في مواجهة الفتن والأزمات.
وفي تلك الفترة، استشار النبي ﷺ بعض أصحابه المقربين وأفراد عائلته، مثل أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لمعرفة آرائهم في الشائعة، كما استشار زينب بنت جحش رضي الله عنها- زوجة النبي الأخرى- والتي أكدت براءة عائشة وقالت: "أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرًا" وهذه الخطوة التي قام بها النبي ﷺ تؤكد على أهمية التحقق والتثبت من الأخبار قبل اتخاذ أي رد فعل ربما قد يؤثر بالسلب على سير الأحداث في المستقبل.
وخلال هذه الفترة ايضاً، قام النبي ﷺ بتحذير المجتمع من نقل الشائعات والترويج لها، مذكرًا إياهم بخطورة التحدث فيما لا يعلمون، حيث كان النبي ﷺ يسعى للحفاظ على وحدة المجتمع ومنع الفتنة من الانتشار.
وبعد مرور قرابة شهر من انتشار الشائعة، نزل الوحي من عند الله تبارك وتعالى بتبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النور: 11)، فقد نزلت هذه الآيات لتثبت براءة عائشة رضي الله عنها وتوضح أن ما حدث كان امتحانًا للمجتمع الإسلامي.
وبعد تبرئة عائشة رضي الله عنها، قام النبي ﷺ بتأديب من تورط في نشر الشائعة، حيث أمر ﷺ بجلد مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، الذين شاركوا في تأجيج الفتنة ونشر الشائعة دون التثبت من صحتها.
‏*وختاما نقول إن حادثة الإفك تقدم لنا درسًا خالدًا في كيفية التعامل مع الشائعات، من خلال التأكيد على أهمية التثبت من الأخبارالواردة، ونشر الوعي العام بأخطار الشائعات ودورها في تفكيك المجتمع، والتعامل معها بصبر وحكمة مع المحاسبة العادلة لمن يروجونها ويسعون للفتنة، وبهذا المنهج الحكيم، الذي طبقه النبي ﷺ لكي يحافظ على وحدة المجتمع الإسلامي وتماسكه، يؤسس لنا نموذجًا لكيفية التعامل مع الشائعات يمكن الاستفادة منه على مدار العصور والأزمنة.


الهدي النبوي، الشائعات، الاخبار الكاذبة، حادثه الإفك


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع