مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


الانحراف في باب البدعة والتّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ المعتبر (6)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


29/04/2023 القراءات: 699  


الأذان الأوّل يوم الجمعة
فقد نسب إحداث هذا الأذان إلى البدعة جمعٌ من المتأخّرين، منهم الشّيخ المباركفوي -رحمه الله-؛ حيث قال (al-Mubarakfori,n.d): "فإذا عرفت أنّه ليس المراد بسنّة الخلفاء الرّاشدين إلّا طريقتهم الموافقة لطريقته -صلّى الله عليه وسلّم-، لاح لك أنّ الاستدلال على كون الأذان الثّالث الذي هو من مجتهدات عثمان -رضي الله عنه- ‌أمرًا ‌مسنونًا ‌ليس ‌بتامّ، ألّا ترى أنّ ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة (Ibn Abi Shaibah,2015,n5548)، فلو كان هذا الاستدلال تامًّا وكان الأذان الثّالث أمرًا مسنونًا، لم يطلق عليه لفظ البدعة، لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار، فإنّ الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة، بأي معنى كان، فتفكّر".
وقد أجاب أهل العلم على ذلك، فمن نصوصهم (‘Ulama Najd al-A’lam,1996): "وما يطلق عليه اسم البدعة ممّا فعله الصّحابة، والأئمّة والتّابعون، فهو ‌بدعة ‌لغويّة، كقول عمر: "نعمت البدعة هذه"(Malik,1985,n3)، يعني التّراويح، وكزيادة عثمان والصّحابة ‌الأذان ‌الأوّل يوم الجمعة، فهو لا يدخل في قوله -صلّى الله عليه وسلم-: " كلّ ‌بدعة ضلالة "؛ لأنّ له أصلاً في الشّرع، وأيضًا فهو ممّا سنّه الخلفاء الرّاشدون، ولهم سنّة يجب اتّباعها، لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "... فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ‌عَضُّوا ‌عَلَيْهَا ‌بِالنَّوَاجِذِ"(al-Tirmithi,1996,n2676). كما أنّ الأذان للإعلام بدخول الوقت، فهو وسيلة للصّلاة اجتهاديّة، لا عبادة مقصودة لذاتها، وزاده الخليفة عثمان -رضي الله عنه- لأجل مصلحة المسلمين، لمّا كثروا وتباعدت مساكنهم، لذا أقرّه الصّحابة، واستحبّه أكثر فقهاء المذاهب، فمن نصوصهم: قال الحصكفيّ: ‌ووجب ‌سعي ‌إليها -الجمعة- وترك البيع، ولو مع السّعي، ‌بالأذان ‌الأوّل في الأصحّ، وإن لم يكن في زمن الرّسول بل في زمن عثمان" (al-Haskafi,2002)، وقال العدويّ: "والّذي ينبغي أن يقال: إنّ كلّ واحد من الأذانين -للفجر- سنّة، كما في أذاني ‌الجمعة، وينبغي أن يكون الثّاني آكد من الأوّل" (al-‘Adawi,1994)، وقال المرداويّ: "الصّحيح من المذهب؛ أنّ ‌الأذان ‌الأوّل -للجمعة- ‌مستحبّ" (al-Merdawi,1995). لذا فالمسألة من الفروع الّتي يسوغ فيها الخلاف، ولا ينبغي للشّيخ المباركفوري نسبة قول المخالف إلى البدعة، أو التّعصّب لقوله !

الصّلاة على الميّت الغائب
هناك من اعتبر الصّلاة على الميّت الغائب بدعة، حتّى وإن أمر بها وليّ الأمر؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لم يسنّها، ولم يفعلها الصّحابة. وقد نقلتها بعض المراجع المعاصرة (Ibn al-‘Uthaimeen,n.d). وهذه مسألة خلافيّة بين العلماء، وهي من مسائل الخلاف الفقهيّ السّائغ، فلا يقال: إنّها ‌بدعة، وإلّا لترتّب على ذلك تبديع كلّ الفقهاء ! قال ابن قدامة: "وتجوز الصّلاة على ‌الغائب في بلد آخر بالنّيّة، فيستقبل القبلة، ويصلّى عليه كصلاته على حاضر، وسواء كان الميّت في جهة القبلة أو لم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن. وبهذا قال الشّافعيّ" (Ibn Qudamah,1997). وقال النّوويّ: "ومذهبنا جواز الصّلاة على الميّت الغائب عن البلد سواء كان في جهة القبلة أم في غيرها، ولكنّ المصلّي يستقبل القبلة، ولا فرق بين أن تكون المسافة بين البلدين قريبة أو بعيدة، ولا خلاف في هذا كلّه عندنا" (al- Nawawi,n.d)، واستدلّوا لذلك بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌نَعَى ‌النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أربع تكبيرات (al-Bukhari,1993,n1245). فالمسألة لها أصل، فهي إذن مشروعة. والفقهاء الّذين لم يقولوا بمشروعيّتها، لم يرد عنهم تبديع المخالف، فالمبدّع ليس له سلف في ذلك !

السُّبْحة أو المِسْبحة (خرَزَات منظومة للتّسبيح)
من أهل العلم من عدّها بدعة؛ لأنّها لم تكن في عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ومخالفة لسنّة عقد التّسبيح بالأنامل (al-Harawi,2002, al-Mubarakfori,1984, al-Albani, 1992). فلا يعتدّ بقول من عدّ السّبحة من البدع؛ إذ إنّها في معنى العدّ بالحصى، وقد أقرّ النّبيّ-صلّى الله عليه وسلّم- المرأة الّتي كانت بين يديها نوى أو حصى تسبّح به (al-Shawkani, 1993)، فَعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهَا، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلّى الله عَلَيه وسَلّم- ‌عَلَى ‌امْرَأَةٍ وفِي يَدِهَا نَوًى، أَوْ ‌حَصًى تُسَبِّحُ به، فَقَالَ لها: "أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ للهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ" (Ibn Hibban, 2012,n1785). قال الشّوكانيّ (al-Shawkani, 1993): وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز، والحديث أخرجه النّسائيّ وابن ماجة وابن حبّان والحاكم، وصحّحه وحسّنه التّرمذيّ، وقد وردت بذلك آثار، وساق السّيوطيّ آثارًا في الجزء الّذي سمّاه "المنحة في السّبحة"، وهو من جملة كتابه المجموع في الفتاوى، وقال في آخره: ولم ينقل عن أحد من السّلف ولا من الخلف المنع من جواز عدّ الذّكر بالسّبحة، بل كان أكثرهم يعدّونه بها، ولا يرون ذلك مكروهًا.
لذا فالسّبحة العاديّة أو السّبحة الإلكترونيّة الّتي ظهرت اليوم ليست بدعة دينيّة، فالأمر فيها واسع؛ لأنّ قصد الإنسان في استعمالها عدّ الذّكر الّذي يقوله، ليس إلّا، فهي إذن وسيلة إلى تحقيق مشروع، وهو ذكر الله، ولا يقصد بها التّعبّد لله.


الانحراف، البدعة، التّبديع، الخلاف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع