مدونة محمد كريم الساعدي


أفلاطون وجماليات عالم المثل/ الجز الثاني

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


03/02/2023 القراءات: 500  


إنَّ عالم المثل الأفلاطونية منظومة مفاهيمية مكونة من كليات الأشياء وصورها في الوجود المادي بجزئياته واختلافاته وافراده في الحياة الطبيعية. من هذه النظرة قسم (أفلاطون) (المُثل) الى أنواع يدخل من ضمنها الجمال ، فمثلاً تضم (المُثل) الافلاطونية بالإضافة الى الخير ، والعدالة ، والشجاعة ، والعفة ، والصبر ،والكرم ، يأتي الجمال من ضمن هذا النوع من المثل ، كما تأتي (مُثل )الاشياء الجسمانية ، ومنها الحصان ، الإنسان ، الشجرة ، وغيرها من التجسيمات الظاهرة للعيان من ضمن هذه (المُثل) الجسمانية التي يضاف اليها (مُثل) الصفات التي ترتبط بهذه المثل الجسمانية ، كالبياض ،والسواد ، والثقل ، والحلاوة ، والطول ، والأرتفاع وغيرها . وهكذا يصنف (أفلاطون) (المُثل) في هذه الأنواع وغيرها , ولكنه وضع الجمال من (المُثل) الأخلاقية التي ترتبط بجمال الأشياء وفاعليتها . ونعتقد بأنه يشير الى جمال آخر يرتبط بالقيم الإنسانية . وهذه (المُثل) مجتمعة تميزت بخصائص ، ومنها على سبيل المثال خاصية (الجواهر) ، أي أنها حقائق مطلقة ووجودها كلي في ذاتها ، وأنها كلية ، ليست بجزئية ، فهي ، أي (المُثل) بجواهرها مطلقة ، أي أن كل الأشياء تتوقف عليها باعتبارها من مبادئ الكون الأولى . فهي لا تقصد الإنسان بمسمى فردي (زيد مثلاً) ، بل تقصد بوصفه مفهوم كلي ، وهذه (المُثل) تقوم على خاصية أخرى هي الوحدة في الكثرة ، فمجموع الأسماء لأفراد المجتمع عادة ما تطلق على (مثال) واحد هو الإنسان ، فكل أفراد المجتمع يرجعون الى هذه الخاصية الإنسانية ، وليست هذه التعددية في الأسماء كل منهم يرجع الى مثال إنسان مختلف ، بل الى مفهوم الإنسانية الذي يجمع كل أفراد المجتمعات في العالم . وهذا المفهوم ثابت غير فان ، ولكن من يفنى هو (زيد وعمر) كأفراد جسمانية خاضعة لطبيعة الفناء . وكل (مثال) هو ماهية للشيء ذاته للوجود الخارجي ، وهذا المثال يقع في دائرة الكمال المطلق ، أي لا يخضع للزمان والمكان من حيث الفناء والاندثار ، وهذه (المُثل) لا تستوعب إلا من خلال العقل الإنساني الذي يدرك عالم المُثل ، كون أن العقل عند (أفلاطون) هو المجال الوحيد القادر على هذه الممارسة في استيعاب عالم (المُثل). (4)
أضافة الى عالم (المُثل) الذي شكل الركيزة الأساسية في فلسفة (أفلاطون) ومنها ما أختص بالجمال ، وكيفية توجيه الفلسفة الجمالية لديه ورؤيته لهذا العالم ، فقد أضاف مفهوم آخر يتصل بالنظرية الجمالية وهو مفهوم المحاكاة وعلاقته بالظاهرة الفنية في مجالاتها المختلفة ، ومنها الموسيقى والرسم والنحت والخطابة وغيرها من الفنون على الرغم من تشبه بعض الفنون إلا أنها لا تلبي نظريته في (المُثل) ، وأنها محاكاة خادعة، ويشبهها بفكرة السفسطائي في تناول مفهوم الأقناع للأخرين الذين يتأثرون بالأوهام وليس بالحقيقة كما في محاورة (ثنيتتس والغريب) التالية :
" ثنيتتس: كلا فإنك ذكرت صنفاً متشعباً جداً ، ويكاد أن يكون أوفر الأصناف تلوناً ، ضممت فيه وحده كل الفروع .
الغريب: فنحن نعرف إذن ، عمن يعد بأنه قادر بفن واحد أن يصنع كل شيء ، هذه الحقيقة وهي أنه يصطنع أشياء تحاكي الموجودات وتقلب باسمها بواسطة فن الرسم ، وعندئذ إذ يبدي الرسوم من بعيد، يضحى قادراً أن يستغفل البلهاء من الفتية الأحداث ليوهمهم أنه ينجز ما يشاء وأنه على أتم القدرة أن يحقق ذلك في الواقع"(5). إذن، يصبح الوهم الذي يقدمه فن الرسم يشبه بوهم السفسطائي الذي يوهم الشباب والفتية في جعل الأشياء التي يجمعها الرسام في أطار اللوحة قادر على أن يحققها في الواقع ، ومن هنا فإن (أفلاطون) قد جعل من هذا الفن هو مشابه لفكرة السفسطائي في الاقناع ، التي يعارضها (أفلاطون) في فلسفته.
يقسم (أفلاطون) المحاكاة الى نوعين في كتاب (السفسطائي) في المحاورة المستمرة ما بين (ثنيتتس والغريب) ، يوضحهما في المحاكاة وكيفية النظر الى الفنون من خلالهما ، على أعتبار أن (أفلاطون) يعطي أسباب عدم تماشي طبيعة هذه الفنون مع نظريته في المحاكاة .
أن فكرة (أفلاطون) حول مفهوم المحاكاة والسبب الذي يجعله لا يتوافق مع الرسامين والنحاتين في اختيار قياسات النماذج في الرسم والنحت مما يجعلها تبدو متفاوتة بين أجزائها العليا والسفلى ، وتقع مشكلة كل من الرسام والنحات بين الضخامة في التصوير وبين الحقيقة التي هي لها قياساتها المحددة ، وتعد الأقيسة التي تبدو عليها أقيسة بهية ، وليست حقيقية . وفي الأولى ، أي الاقيسة البهية ، تقع تحت فن المخايلة ، بينما الأقيسة الحقيقة تقع تحت فن النسخ . والجمال على وفق هذه الرؤية الأفلاطونية قد تحدد على وفق المحاكاة بين نوعين منها على حسب هذه الأقيسة ، وهما " المحاكاة السطحية ،أي المعنى الشائع للمحاكاة . والنوع الثاني فن بصير بمحاكاة مستنيرة ، لأنها تنطوي على علم من يمارسها بما يجب عليه أن يحاكيه من (مُثل) للخير والحق والجمال ، وهذه المحاكاة لا توجد إلا عند الفنان ذي الثقافة الفلسفية الواسعة " (7). فالجمال على وفق مفهوم النوع الثاني من المحاكاة لا يأتي دون ممارسة جادة واعية ومعمقة للمعنى الخاص بالفن ، فالفنان لا يمكن أن يكون ذو عقل واع مالم يكن في محاكاة فنه بطريقة عقلية تنتج الخير والحق والجمال . ولكن تبقى مشكلة مهمة عند الفنان ، وعلى حسب الطريقة الأفلاطونية في المحاكاة ، هل يستطيع أحد من الفنانين أن يصل الى قيم الخير والحق والجمال ويحاكي المُثل الأفلاطونية بالطريقة التي حددها (أفلاطون) نفسه للفنان ؟ ، أم أنه لا يوجد فنان بهذه المساحة المعرفية العقلية يكون قادر على أن يصل الى المحاكاة الأفلاطونية بفنه ؟ ، وخصوصاً بعد أن جعل (أفلاطون) من المحاكاة في النوع الثاني تعود بطريقة أو أخرى الى النوع الأول من الفن ، أي أن (أفلاطون) أعاب على محاكاة المحاكاة بعد أن جعل المحاكاة الأولى التي هي صورة من عالم المُثل الكلي ، وأعتبر المحاكاة الثانية التي يقوم بها الفنان للطبيعة هي بالأصل سطحية وتشوه الصورة الأولى التي هي محاكاة لعالم المُثل بالأصل .


جمال ، المثل


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع