مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


الانحراف في باب البدعة والتّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ المعتبر (3)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


28/04/2023 القراءات: 713  


وقد ردّ الشّاطبيّ على مَن توسّع في معنى البدعة ردًّا شافيًا (al-Shatibi,1992)؛ وممّا قاله: "إن ّهذا التّقسيم أمر مخترع، لا يدلّ عليه دليل شرعيّ، بل هو نفسه متدافع؛ لأنّ من حقيقة البدعة أن لا يدلّ عليها دليل شرعيّ؛ لا من نصوص الشّرع، ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدلّ من الشّرع على وجوب أو ندب أو إباحة، لما كان ثمّ بدعة، ولكان العمل داخلًا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخيّر فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعًا، وبين كون الأدلّة تدلّ على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين".

تعريف التّبديع لغة: قال الرّازيّ: (‌بَدَّعَهُ تَبْدِيعًا): نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ (al-Razi,1999). فالتّبديع في اللّغة: مصدر الفعل الثّلاثيّ المضعّف بدّع، ويراد به: نسبة البدعة إلى شخص مبتدع.
التّبديع اصطلاحًا: لا يخرج عن معناه اللّغويّ، ويراد به في هذا البحث: رمي قول المخالف في فروع الشّرع بالبدعة، ووصم صاحبه بأنّه مبتدع في الدّين، مفارق للجماعة.

حدود البدعة والتّبديع
هناك حدود ينبغي مراعاتها في باب البدعة والتّبديع؛ حتّى لا يحصل خلط عند كثير من النّاس بين السُّنّة والبدعة، أو يتسرّعوا في الحكم على الشّخص بالابتداع، ومن هذه الحدود ما يلي:
الأوّل والثّاني والثّالث: مستنبطة من التّعريف المختار للبدعة -المتقدّم- وهو تعريف الشّاطبيّ، إذ عرّفها بأنّها: طريقة في الدّين مخترعة، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد لله -سبحانه-. فالحدّ الأوّل للبدعة: أن تكون طريقة في الدّين، وليست في الدّنيا، كالمخترعات والعادات والأعراف غير المخالفة للشّرع؛ لأنّ ‌الأصل ‌في ‌العبادات التّوقيف، وفي العادات العفو (Ibn-Taimiyyah,1995)، فلا يشرع من العبادات إلّا ما شرعه الله -تعالى-، كما أنّ كلّ عمل لم يعمله النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مع وجود المقتضي وعدم المانع من فعله، ففعله الآن بدعة، أمّا العادات والمعاملات والعقود والشّروط، فالأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلّا ما حرّمه الله -تعالى-. والحدّ الثّاني: أن تشابه الطّريقة الشّرعيّة، كالابتداع في الصّلاة أو في الأذان أو في الحجّ. والحدّ الثّالث: أن يقصد بها المبتدع التّقرّب إلى الله -تعالى-، ولا يجوز أن يتعبّد الإنسان خالقه -تعالى- بشيء لم يشرّعه.

الرّابع: ‌أن تخصّص ‌العبادة بزمان أو مكان معيّن، أو تكيّف بكيفيّة لم يرد فيها نصّ من الشّرع. قال الشّاطبيّ (al-Shatibi,1992): ومنها -أي من البدع الّتي تضاهي الطّريقة الشّرعيّة-: التزام الكيفيّات والهيئات المعيّنة، كالذّكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتّخاذ يوم ولادة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عيدًا، ومنها: التزام العبادات المعيّنة في أوقات معيّنة ‌لم ‌يوجد ‌لها ‌ذلك ‌التّعيين ‌في ‌الشّريعة، كالتزام صيام يوم النّصف من شعبان وقيام ليلته.

الخامس: أن يكون المبدِّع تقيًّا متثبّتًا عالمًا بالأحكام الشّرعيّة وبأصول البدع، وإلّا يعتبر قوله في المخالف غيبة، كالجارح للرّواة من غير أهله. قال النّوويّ (al-Nawawi,1392): "على الجارح تقوى الله -تعالى- في ذلك، والتّثبّت فيه، والحذر من التّساهل بجرح سليم من الجرح، أو بنقص من لم يظهر نقصه؛ فإنّ مفسدة الجرح عظيمة، فإنّها ‌غيبة ‌مؤبّدة ‌مبطلة لأحاديثه، مسقطة لسنّة عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ورادّة لحكم من أحكام الدّين".

السّادس: أن لا يكون التّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ السّائغ. فإذا كان الخلاف سائغًا، فلا إنكار على المخالف فيه، فضلًا عن وصمه بالابتداع؛ لأنّه لا يدخل في حدّ البدعة. قال النّوويّ (al-Nawawi,1392): ثمّ العلماء إنّما ينكرون ما أجمع عليه، أمّا المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ ‌لأنّ ‌على ‌أحد ‌المذهبين ‌كلّ ‌مجتهد ‌مصيب، وهذا هو المختار عند الكثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطىء غير متعيّن لنا والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النّصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإنّ العلماء متّفقون على الحثّ على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنّة أو وقوع في خلاف آخر.


الانحراف، البدعة، التّبديع، الخلاف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع