مدونة سعد رفعت سرحت


حجاجيّة(و نفسي أوّلًا) في خِطاب النّصح

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


24/03/2023 القراءات: 423  




(و نفسي أوّلًا)يمكن اتخاذه مبدأً تداوليًا أو استراتيجية من استراتيجيات الجذب في خطاب النصح،و بمقدورنا إعمام هذا المبدأ في كلّ ملفوظ يراد به النصح بإخلاص،نعم فقد لا يُصرّح به دائمًا،ولكن هناك ألفاظ وعبارات تحلّ محله،فلنتأمّل معًا في هذه الملفوظات:

١_أوصيك _ونفسي أولًا_ بكذا.
٢_أنصحك بكذا ولستُ بأحسن منك.
٣_أنصحك ولستَ ملزمًا بالأخذ بما أقول
٤_(و ما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه تُرجعون)


حسب بول غرايس أنّ أهمّ استراتيجية من استراتيجيات التفاوض أن يقوم المتكلم بفحص الإطار النفسي الذي يحفّ بعملية الحوار،إذ يدرك المتكلم حالة مخاطبه المزاجية بالحدس،وعندئذٍ يجهد من خلال حديثه إلى بثّ الألفة و الارتياح في نفسِ محاوره،وهذا مرهون بسعي كلا الطرفين للتفاوض وبضرورة وجود عزم من كليهما على مواءمة المعلومة لنفسية الآخر،كلّ ذلك ممّا لا بدّ منه لانجاح عملية الحوار(=التفاوض).


هذا ما يمكن لحظُه في خطاب النصح و في خطاب الوصية، وذلك أنّ الناصح يعمدُ إلى اصطناع التواضع بأنْ يكشف عن حاجته للنصح أكثر من المنصوح، فيُدخل نفسه في عداد المنصوحين،فبدلًا من أنْ يبني خطابه على ضمير المخاطب يلجأ إلى ضمير المتكلّم للإشارة إلى أنّه أحوج من المنصوح إلى النصح،وبدلًا من أن يباشر في النصح والإرشاد بأنْ يقول(أنصحك يا فلان بكذا أو أوصيك يا فلان بكذا )نراه يعمد إلى هذه الجملة الاعتراضية الشهيرة(ونفسي أولًا)التي تسمعونها كثيرا في سياقات النّصح و الإيصاء:(أوصيكم_ ونفسي أولًا_ بكذا)،أو يقوم بإلغاء دوره المؤسساتي في الخطاب لاستمالة مخاطبه وشحذ تقبّله بكلمات تُشعره بالألفة و تُشعره بأنّ المتكلم لا يصدر عن تعالٍ و ترفّع،بل يصدر عن إخلاص في النيّة،لهذا يقول:(أنصحك_ ولست بأحسن منك......)أو (أنصحك ولستَ ملزمًا بالاخذ بما أقول)،وكما تلحظ أنّ الفعل الكلامي مشفوع بمقيّدات لا تخفّف من حدّة ال"أنا"فحسب،بل تجعل من ال"أنا"حاضرة بالضرورة مع الآخر.


تعرفون جيّدًا أنّ النصيحة ثقيلة_و كذا الوصيّة_ و قد تكون مّرّة،فربّما لا تُقبل إذا ما جاءت تقريريّة مباشرة،و عندئذٍ لا يأمنُ الناصحُ والموصي ردة فعل المنصوح،و لهذا ينبغي على الناصح أنْ يبادر بالنصح وفق سياسة(و نفسي أولًا) و بعبارة أخرى: على الناصحِ أنْ يأمنَ ردات فعل من ينصحه،عليه أنْ يعينه على القبول بأسلوب يعزّز في نفسه صفاء النية،و يُشعِره بأنّه لا يريد له إلّا ما يريده لنفسه.


وقد أشار البلاغيون قديما إلى هذا في غير مكان،ومن ذلك ما جاء في الكشاف عن قوله تعالى:(و ما لي لا أعبد الذي فطرني و إليه تُرجعون)فهذا قول حبيب النجّار صاحب يس ناصحًا القوم،و هو يريد:و ما لكم لا تعبدون الذي فطركم،والذي ينبّه إلى كون كلامه نصحية هو قوله(و إليه ترجعون)ففيه انتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين،يقول الزمخشري:((أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه،وهو يريد مناصحتهم، ليتلطّف بهم ويداريهم،لأنّه أدخلُ في إمحاض النصح،حيث لا يريد لهم إلّا ما يريد لروحه))(١)،وهو إذا أخرج الكلام هذا المخرج،يعلم أنّ من شأن النصح بهذه الصيغة أن((لا يورثهم مزيدَ غضبٍ،وقد ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل و مواجهتم بذلك ويعينُ على قبوله))(٢)


ولعلّ هذا الصنيع حالة ملازمة للنصيحة،سواء في الفصحى أم في العاميّة،وهو إحدى ستراتيجيات الجذب والاقناع ومعينات قبول النصيحة ،فالمتكلم بدلًا من أنْ يبني خطابه على ضمير المخاطب يلجأ إلى ضمير المتكلّم للإشارة إلى أنّه أحوج من المنصوح إلى النصح،ففي مناسبات كثيرة لا يستطيع الناصح لا يتوجّب على الناصح أن يباشر بالنصح بضمير المخاطب،كأن يقول لمنصوحه حين لحظ منه تقصيرا:(يا فلان احترمْ من هم أكبر منك )بل ينبغي أن يبني الخطاب على ضمير المتكلم فينسب التقصير إلى نفسه ويقول:(يا فلان كان عليَّ أنْ أحترمَ من هم أكبر مني...)ففي هذا تلطّف لا نلحظه حين تأتي النصيحة تقريرية بضمير المخاطب.


________

١_الكشاف:٨٩٢ طبعة دار المعرفة في مجلد واحد،وقد نقل القزويني كلام الزمخشري من دون إشارة اليه]


٢_الايضاح للقزويني:٩٦.


حجاجية عبارة )ونفسي أولا)_ خطاب النصيحة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع