مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


رَمضْان؛أرواحناظَمأى وفَوقَ أكفِّكَ الرَّيانُ(3)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


25/03/2023 القراءات: 208  


من أحسنها وجهان:
أحدهما: أن الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية، التي جبلت على الميل إليها لله - عز وجل - ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام. فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله في موضع لا يطلع عليه إلا الله: كان ذلك دليلا على صحة الإيمان. فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره، واجتنب نهيه، خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك «إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضى مولاه في ترك شهواته، قَدَّمَ رضى مولاهُ على هواه، فصرات لذتُه في ترك شهواتِه لله، لإيمانِه باطلاع الله وأن ثوابَه وعقابَه أعظمُ من لذةٍ يتناولُها في
الخلوة، إيثارًا لرضى ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب.
ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في رمضان لغير عذر لم يفعل، لعلمه بكراهية الله تعالى لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان: أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه.
وإذا كان هذا فيما حُرَّمَ لعارض الصوم: من الطعام والشراب، ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حُرِّمَ على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر، وأخذ أموال الناس بالباطل، وهتك الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل مكان وزمان.
الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلعُ عليه غيره، لأنه مركبٌ من نيةٍ باطنةٍ لا يطلعُ عليها إلا الله، وتركٍ لتناولِ الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء.
وقد يرجع إلى الأول، فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله - عز وجل -، بحيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه: دلَّ على صحة إيمانه، والله تعالى يحبُّ من عباد أن يعاملوه سرًا بينهم وبينهُ بحيثُ لا يطلعُ على معاملتهم إياهُ سواهُ.
وقوله: «ترك شهوتهُ وطعامه من أجلي» فيه إشارةٌ إلى ما ذكر من أن الصائمين يتقربون إلى الله تعالى، بترك ما تشتهيه نفوسهم من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظمُ شهوات النفس.
وفي التقرب إلى الله بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد.
منها: كسرُ النفس، فإن الشبع والرِّيَّ ومباشرة النساء، تحملُ النفس على الأشَر والبطرِ والغفلةِ.
ومنها: تخليِّ القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات يقسَّي القلب ويُعميه، ويحولُ بين القلب والذكر والفكر، ويستدعي الغفلة، وخلوة البطن من الطعام والشراب ينورُ القلب، ويوجبُ رقَّته، ويزيلُ قسوتهُ، ويُخْليهِ للذكر والفكر.
ومنها: أن الغني يعرفُ قدر نعمة الله عليه، بإقداره له على ما منعهُ كثيرًا من الفقراء، من فضول الطعام والشراب، والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك، يتذكرُ به مَنْ مُنع منْ ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكنُ من ذلك.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم. فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكنُ بالصيام وساوسُ الشيطان، وتنكسرُ سورةُ الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصوم وجاءً، لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه لا يتمُّ التقربُ إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة، في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه في كلِّ حالٍ: من الكذب، والظُّلم، والعُدوان، على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» أخرجه البخاري. وفي حديث آخر: «ليس الصيامُ من الطعام والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث» قال ابن المديني: على شرط مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثُ ولا يفسق، ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ» . «الجُنةُ» : ما يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي. «والرَّفثُ» : الفُحْشُ، ورديءُ الكلامِ.
ولأحمد والنسائي عن أبي عُبيدة مرفوعًا: «الصيامُ جُنّةٌ ما لم يُخرِّقْها» . وروى الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا: «إن الصيام جُنَّةٌ ما لم يُخرِّقْها، قيل: بم يُخرّقْها؟ قال بكذب أو غيبة» وروي عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصائمُ في عبادة، ما لم يغتب مسلمًا أو يؤذه» وعن أنس: «ما صام من ظلَّ يأكلُ لحوم النَّاس» .
---


رَمضْان؛أرواحناظَمأى وفَوقَ أكفِّكَ الرَّيانُ(3)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع