مدونة بروفسور دكتور. وائل أحمد خليل صالح الكردي


هجم النمر.. الاستهزاء اشد من القتل

أ.د. وائل أحمد خليل صالح الكردي | Prof.Dr. Wail Ahmed Khalil Salih AlKordi


04/03/2025 القراءات: 6  


هجم النمر..

وائل احمد خليل الكردي

لعلنا نذكر تلك القصة القديمة عن ذلك الفتى الذي عهد إليه أهل قريته رعاية خرافهم ونعاجهم، فلما أن أصابه ضجراً من سعة الفلاة وطول الفراغ وصمت الحملان عمد إلى تسلية وضيعة بأن صاح بأشد صوته مستغيثاً كذباً (هجم النمر..) فهرع لنجدته أهل القرية بعصيهم وحرابهم، ولكنهم صدموا عندما وجدوا الفتى هازئاً ساخراً يضحك ملء فكيه على ما أوقعهم فيه من خديعة ولم يرعى اهتماماً إلى غضبهم عليه. ثم كان أن أعاد الكرة مرتين، وإذ صدقوه في كل مرة وجدوه هازئاً ساخراً يضحك منهم. فلما كانت الثالثة امتنع أهل القرية عن الاستجابة له، فماذا وقد كان في هذه المرة صادقاً وأن النمر قد هجم حقاً، وكأنما النمر كان يرصد بذكاء فطري فعل ذلك الفتى حتى إذا استيقن من إحكامه طوق كذبته على رقبته وأنه قد فقد مصداقيته عند أهله، هجم عليه مطمئنا فكان ما كان.
كانوا يعلموننا صغاراً أن مغذى هذه القصة هو أن الكذب خطيئة كبرى وعاقبته قاسية، وأن هذا لحق. ولكن لعل هناك في عمق القصة مقصد آخر أبلغ، وهو الإشارة إلى عاقبة الاستهزاء والسخرية في استفزاز شهامة الكرماء، فإذا كان الكذب يثير الغضب ويُفقد الثقة في الكاذب، فإن الاستهزاء والسخرية وحقر المعروف في مواقف النبل والشامة يجرح القلوب ويوغر الصدور ويحرض على الانتقام. فالاستهزاء ونكران الجميل يقع على النفس بأشد مما يقع عليها الكذب الشيء الكثير. فكيف كان الحال، عندما فزع أهل القرية لنجدة الفتى والفتى من شهامتهم ساخر مستهزئ، كيف صار في قلوب هؤلاء القوم عندما اصطدموا بالنكران والسخرية في موقف وجب فيه رد المعروف شكراً وامتناناً. ولرب قائل بأن موقف أهل القرية ما كان لنجدة الفتى بذاته ولم يقصدوا إليه هو فزعاً وإنقاذاً له وإنما كان جل شفقتهم وخوفهم على أنعامهم التي بين يدي الفتى وأنهم هبوا غوثاً لها وليس له. ولكن لو كان هذا القول حق لكانوا سحبوها منه منذ أول مرة ومنعوه رعيها ثم تركوه لشأنه، ولكنهم تركوه مستمراً على رعايتها رغم تكراره الكذب والهزء مرات ومرات وكأنما لسان حالهم قائل ما درج في مثلنا الشعبي (ما جاءتك في مالك سامحتك) وهي مقولة ظللنا نسمعها تكراراً من أهلنا الطيبين في أحلك حالات الحرب، أن لا نأسى على مال فُقد وبيوت تهدمت وممتلكات نُهبت مادامت الأنفس تنبض حية وبخير. ومن نفس هذا المنطلق، فلو أن الفتى الكذاب كان يسير في الفلاة بغير خراف ونعاج أهل القرية ثم صرخ مستغيثاً لنفسه أن (هجم النمر..) ألم يكونوا ليفزعوا إليه نجدة وغوثاً؟ بلى، فلتذهب الخراف والنعاج إلى بطن النمر بغير أسىً ما دام الفتى حي يرزق. وهذا على وجه التحديد ما يجعل العبرة العليا في القصة أن الاستهزاء وحقر المعروف يوغر الصدر ويشعل الحقد في القلب ويثير الرغبة في الانتقام، ربما لذلك كان التزام أهل القرية الصمت والسكون في المرة الأخيرة عندما صاح الفتى (هجم النمر..) وهو في هذه المرة صدق، كأنما هي نيتهم بغير تصريح منهم (حتى وإن كان هذه المرة صادقاً فلندعه ينل جزاء استهزائه بنا وحقره معروفنا وجحود شهامتنا) فلا أسفاً عليه بعد ذاك أن مزقه النمر.
وربما جعل الله الاستهزاء شيء من العذاب والتعذيب النفسي الثقيل على الإنسان تحمله بأقسى مما عليه عذاب الجسد بالنار حين قال (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يستهزئون) كما استُهزئ بهم من قبل، بل وبلغ من شدة غضب الله واستنكاره وعتابه أنهم قالوا (إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون). وشاهد أيضاً على هذا، أعنف الثورات في العالم كانت عندما يبلغ الغضب بالناس حد اللامبالاة بالموت والآم الجسد أمام الرغبة في الانتقام وإشفاء الغليل من أولئك الذين حقروا معاناتهم التي أنزلوها هم بهم قصداً وطغياناً ثم بعد ذلك يخرجون بالأحاديث فيهم ببراءة الأجنة (إنما نريد صالحكم العام وطمأنينتكم ورفاهكم) ولكنه الاستهزاء من بعد الكذب واقتراف الجرائم.
ولقد جاء في فيلم (جمعية الشعراء الموتى) Dead poets society أن القائمين على الأمر في أكاديمية (ويلتون) الثانوية العريقة في أمريكا، كما في العديد من مدارس العالم لاسيما النامي، يجلدون أجساد الفتية بلا شفقة على أصغر خطأ صبياني يصدر عنهم، وربما كان ما يبكي منهم المآقي وينزل الدمع حرقة ليس ألم الجلد على الأيادي والأرجل والظهور وإنما تلك الضحكات المستهزئة التي يطلقها الأقران على ما حل بهم. لم يكن أولئك يعلمون أن هذه القسوة هي التي ولٌدت هذه النزعة نحو السخرية والاستهزاء في موقف الألم كنوع من التربية غير المتعمدة على التمرد الخفي إلى الدرجة التي بلغ فيها البعض تمرداً أن يتصنعوا الضحكات وهم يجلدون برغم الألم الشديد، بل والأكثر من ذلك أنهم يعودون بعد الجلد إلى ما كانوا قد اقترفوا ليقترفوه من جديد فيعودون ويجلدون مرة بعد أخرى وكأنهم يتباهون في قرارة أنفسهم ببطولة احتمال الألم في التمرد على كل النظم والقوانين والأصول والأعراف. وفي هذا الفيلم، كم كان المستر (كيتنج) معلم الأدب الانكليزي في اكاديمية (ويلتون) الصارمة حكيماً نفسانياً واجتماعياً عميقاً عندما فجر، في تكليف الابداع الشفاهي، ملكة (الشعر) في نفس الفتى الفاقد الثقة في نفسه وحرصه تحاشيه سخرية أقرانه، بأسلوب فريد أجبر ضحكات السخرية وهمزات الاستهزاء في الفصل الدراسي لتتحول كلها وبإيقاع واحد تصفيقاً حاداً للفتى بأكف زملائه، وبعدها لم يعد الفتى خجلاً كما كان، ولكن مبدعاً فذاً.
https://almohagig.com/?p=15283


هجم النمر ، الاستهزاء ، الكذب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع