مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


{لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


09/01/2023 القراءات: 2833  


{لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}
قال تعالى:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}.
يستشهد بعضهم بهذه الآية على التقدم العلمي الذي وصلت إليه البشرية في هذا العصر، ويستخرجون منها إمكانية الانطلاق من الأرض، واختراق أجواء الفضاء والوصول إلى الكواكب الأخرى مثل القمر والمريخ وغيرها.
لقد وصل التقدم العلمي في هذا العصر إلى قمم شامخة. وطافت سفن الفضاء الأميركية والروسية الفضاء الخارجي، وحصل بين الدولتين سباقٌ متزايد، وتنافسٌ مستمر.
وتحت تأثير هذا الوضع العلمي، يلجأ بعض المسلمين إلى القرآن، يبحثون فيه عن آية تشير إلى هذا التقدم، وإلى ما أوجده من مراكب وسفن فضائية. ويقفون أمام هذه الآيات ليقولوا: إن القرآن أشار إلى إمكانية غزو الفضاء، وإيجاد سفن الفضاء، وأن البشرية ستخترق يوماً أجواء الفضاء، وأنها ستملك السلطان إلى ذلك.
والمراد بالسلطان عند هؤلاء هو سلطان العلم، فبالعلم تمكنوا من الوصول إلى الكواكب واختراق الفضاء.
واستشهاد هؤلاء بالآية غير صحيح، وحملهم السلطان على العلم غير صحيح، وجعلهم الآية دليلاً على اختراق الفضاء غير صحيح.
إن الآية تتحدى الإنس والجن معاً، وتسجل أنهم عاجزون عن النفاذ من أقطار السموات والأرض، واختراق أجواء السموات والأرض. بمعنى أنهم عاجزون عن الانطلاق من السماء الدنيا إلى السموات الأخرى، عاجزون عن الوصول إليها، وأنهم مهما بلغت قوتهم وعظمت قدرتهم، فسيبقون عاجزين عن ذلك، وسيبقى عجزههم مستمراً حتى قيام الساعة.
وتقرر الآيات أنهم إذا حاولوا اختراق السماء الدنيا للسماء الثانية، فإن الله سيرسل عليهم شواظاً من نار ونحاساً فيحترقون.
وتبين الآيات أن مَنْ أراد الله له أن يخترق أقطار السموات والأرض فسيخترقها بإذن الله. فالمراد بالسلطان في الآيات هو إرادة الله وقدرته ومشيئته سبحانه.
ولا تخبرنا النصوص إلا عن نبيَّيْن كريميْن، أراد الله لهما اختراق أقطار السموات والأرض.
الأول: هو عيسى بن مريم عليه السلام - على القول بأن الله رفعه إلى السماء بروحه وجسده، وأنه الآن حي في السموات بروحه وجسده.
والثاني: هو محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، الذي جرى له ما جرى في حادثة الإسراء والمعراج، حيث عُرج به إلى السموات العلى، واخترق السموات السبع واحدةً واحدة، حتى جاوز السماء السابعة، ووصل إلى سدرة المنتهى.
أمامنا كلمات في الآيات:
أن تنفذوا: النفوذ: الاختراق، ونفذ: اخترق. يعني إن استطعتم أن نخترقوا أقطار السموات والأرض.
أقطار السموات والأرض: الأقطار جمع قُطر. والقُطر هو الجانب، أي جوانب وأجواء ومجالات السموات والأرض.
شواظ: اللهب الذي لا دخان فيه. وهذا اللهب من النار، والنحاس المذاب المصهور في النار.
المفسرون على أن هذه الآيات تحدٍّ للإنس والجن، في أنهم عاجزون عن الهرب من ملك الله، والخروج من سلطان الله، والتفلت من قضاء الله. فأينما ذهبوا فهم في أقطار السموات والأرض، وفي ملك الله وسلطانه سبحانه. فإذا ما حاولوا الهرب فإن الله سيحرقهم، بإرسال الشواظ الملتهب الممزوج بالنحاس المذاب.
هذا ما قاله علماء السلف في معنى الآيات، وفي المراد بالسلطان فيها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تنفذون إلا بسلطان: لا تخرجون من سلطاني. وعن قتادة قال: إلا بسلطان: إلا بمَلَكَة من الله.
وعن ابن عباس قال: الشواظ هو اللهب الذي لا دخان فيه.
وقال: النحاس: هو الصِّفر المذاب.
وقال الإمام ابن جرير في تفسير الآية: " إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض، فتُعجِزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ذلك، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم ".
وأما السلطان، فقد ذَكَر أنه قد يراد به الحجة والبينة -وهو الذي رجحه- وقد يُراد به الملك والملكة والتمكين من الله - وهو ما نرجحه نحن.
وقال القُمِّي النيسابوري في غرائب القرآن: " هدَّد الثقلين بأنهم لا يستطيعون الهرب من أحكامه وأقضيته. وقال: " السلطان: القوة والغلبة: أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام، ولا سلطان، فلا مفر ".
وأبطل الإِمام الشنقيطي في أضواء البيان، أن يكون المراد بالسلطان العلم، من وجوه:
الأول: إن الآية إعلام الله للإنس والجن أنهم لا محيص لهم، ولا مفر عن قضائه، ونفوذ مشيئته فيهم.
الثاني: إن الجن كانوا يطيرون في الفضاء، ويسرقون السمع من السماء قبل البعثة المحمدية. فلو أريد بالسلطان العلم لما كان لذكر الجن فائدة.
الثالث: إن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية، أهون على الله من أن يُطلق عليه اسم السلطان. الرابع: إنا لو سلّمنا أن المراد سلطان العلم فلا يستقيم مع بقية الآيات حيث أتبعه بقوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ}. وهو يدل على أنهم لو أرادوا النفوذ من أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس ".
ثم من هو الذي يقول إن العلماء الروس والأميركان استطاعوا النفاذ من أقطار السموات والأرض؟ ومن هو الذي يقول إن السفن الفضائية تمكنت من اختراق أقطار السموات والأرض؟ ومن هو الذي يعتبر نزول هذه السفن على كواكب القمر أو المريخ أو زحل أو عطارد أو غيرها هو اختراق لأقطار السموات والأرض؟
إن كل ما قاموا به -وما سيقومون به- هو بقاءٌ لهم في أطراف السماء الدنيا الأولى. وما هذه الكواكب التي نزلوا عليها إلا ضواحي من ضواحي الأرض لقربها منها.
إنهم ما زالوا يطوفون -وسيبقون يطوفون- في أطراف السماء الدنيا ومجالاتها وجوانبها، وهم يفعلون هذا بإذن الله ومشيئته وإرادته. والآية لا تصف أعمالهم ولا تشير إليها.
إن الآية تتحداهم -ومعهم الجن- في اختراق السماء الأولى إلى السماء الثانية، وتبين لهم استحالة قيامهم بذلك، فإذا حاولوا سيُحرقون باللهب الممزوج بالنحاس المذاب.


{لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع