مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (256)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


05/01/2025 القراءات: 25  


-العز إزاره، والعز إزاري:
هذه تعليقةٌ مختصرةٌ نافعةٌ في بيان نكتة التعبير بضمير الغائب في الحديث القدسي: "العِزُّ إزارُهُ، والكبرياءُ رداؤُهُ" علَّقها الأخ الشيخ الدكتور محمد بن مهدي العجمي وفقه الله تعالى: 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي صحيحِ مسلمٍ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العِزُّ ‌إزارُه، والكبرياءُ رداؤُه، فمن ينازعني عذبتُهُ".
هذا لفظُهُ في صحيح مسلم؛ بلفظ ضمير الغائب، وللشُرَّاح في نكتة العدول عن التعبير بضمير المتكلم إلى ضمير الغائب قولان:
الأول: أنه من قبيل الالتفات، وهي طريقة العلَّامة أبي العباس القرطبي رحمه الله، فقد قال في شرحه: "(قوله: ‌العز ‌إزاره، ‌والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته) كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم، مفتتحًا بخطاب الغيبة، ثم خرج إلى الحضور، وهذا على نحو قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُم فِي الفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم}، فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة، وهي طريقةٌ عربيةٌ معروفة، وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قصمته ثم ألقيته في النار"( ).
الثاني: أن نكتة التعبير بالضمير هو العلم بمن يعود إليه الضمير، وهي طريقة العلَّامة النووي رحمه الله، فقد قال في شرحه: "(‌العز ‌إزاره ‌والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)، هكذا هو في جميع النسخ، فالضمير في (إزاره، ورداؤه) يعود إلى الله تعالى؛ للعلم به، وفيه محذوفٌ تقديرُهُ: قال الله تعالى"( ).
هذا ما وقفتُ عليه من كلام شُرَّاح الحديث، والذي يظهر لي أن النكتةَ في ذلك أمرٌ آخر، وبيانه في ثلاثة أوجه:
الأول: نصُّ الحديث إسنادًا ومتنًا في صحيح مسلم
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في الصحيح (8/35)، كتاب البر والصلة، برقم (2620):
"حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ الأَزْديُّ، حدَّثنا عمرُ بنُ حفصِ بنِ غِياثٍ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا الأعمشُ، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي مسلمٍ الأغرِّ أنه حدَّثه:
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ وأبي هريرةَ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العز ‌إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".
الثاني: مدار التحرير لإبراز نكتة الضمير
القولُ في نكتة التعبير بضمير الغائب مبنيٌّ على معرفة من عبَّر به، فهل هو مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو من تعبير أحد رواة الحديث؟
وقد تبين بعد جمع طرق الحديث أن التعبير بضمير الغائب إنما هو لفظُ أحمدَ بنِ يوسفَ الأزديِّ شيخِ مسلمٍ.
وبيان ذلك تفصيلًا أَنَّ هذا الحديثَ حديثُ عمرَ بنِ حفصٍ، قال الحافظ البزَّار رحمه الله: "وهذا ‌الحديثُ ‌لا ‌نعلم ‌رواه ‌عن ‌الأعمش ‌إلا ‌حفصٌ، ولا عن حفصٍ إلا عمرُ بنُ حفص"( ).
فالحديث إذن يدور على عمر بن حفص بن غياث، وقد رواه عن عمر بن حفص عشرةٌ من الرواة؛ تسعةٌ منهم، وبعضهم من كبار الحُفَّاظ، بلفظ: العِزُّ إزاري، والكبرياءُ ردائي"، وتفرد أحمدُ ابنُ يوسفَ الأزديُّ بلفظ: "العِزُّ إزارُه، والكبرياءُ رداؤُه"، وذلك أن الحديث:
- رواه البخاريُّ في الأدب المفرد (ص/194)، برقم (552).
- وأبو عوانة في مستخرجه (20/105)، برقم (١١٤٤١)، عن أبي زرعة الرازي، وعباس الدوري، ومحمد بن صالح كيلجة.
- والبزَّارُ في مسنده (15/55) برقم (8271)، عن أحمد بن منصور بن سيار.
- وتمامٌ في فوائده (2/149)، برقم (1392)، من طريق أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري.
- والبيهقيُّ في الأسماء والصفات (1/333)، برقم (263)، من طريق محمد بن حسين الحنيني.
- وفي الأسماء والصفات (1/347) أيضًا، برقم (281)، من طريق جعفر بن محمد بن شاكر.
- وفي شعب الإيمان (10/466)، برقم (7808)، من طريق حنبل بن إسحاق.
تسعتُهم (البخاريُّ، وأبو زرعة الرازي، وعباس، وكيلجة، وأحمد، وعبد الرحمن، ومحمد، وجعفر، وحنبل) عن عمر بن حفص عن أبيه به بلفظ: "العز إزاري والكبرياء ردائي"، بضمير المتكلم.
وتفرد شيخُ مسلم أحمد بن يوسف الأزديُّ بروايته عن عمر بن حفص عن أبيه بلفظ: (العز إزاره والكبرياء رداؤه)، بضمير الغائب.
وقد أشار إلى هذا التفرد الحافظُ البيهقيُّ بعبارة موجزة بقوله: "رواه مسلمٌ عن أحمد بن يوسف، عن عمر بن حفص، وقال غيره: العز إزاري، والكبرياء ردائي"( ).
وهذا التفرد ليس من قبيل الخطأ فيما يظهر، بل هو عدولٌ مقصودٌ عن التعبير بضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.
وقد تبين بما تقدَّم أن الـمُعبِّرَ بلفظ ضمير الغائب هو شيخُ مسلمٍ أحمدُ بنُ يوسفَ الأَزْديُ.
الثالث: كشف النقاب عن وجه النكتة
وإذ قد بلغ البحث إلى تعيين مَنْ عبَّر بضمير الغائب، فما النكتةُ في هذا العدول؟
والجواب: أن شيخَ مسلمٍ أحمدَ بنَ يوسفَ الأَزْديَّ عَدَلَ، فيما يخطر لي، عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب تأدُّبًا في اللفظ مع الله تعالى، كأنه تورَّع عن النطقِ بلفظ: "العز إزاري، والكبرياء ردائي"، فأثبتَ مسلمٌ لفظ شيخِهِ في الصحيح كما سمعه، على ما هو معروفٌ من دقته في رواية الحديث وتمييزه بين صيغ التحديث ومتابعته لألفاظِ شيوخه دون تصرف.
وهذا اختيارٌ اختاره أحمدُ بن يوسفَ الأزديُّ لنفسه، وقد روى الجماعةُ الحديثَ عن عمر بن حفص على الوجه، كما سمعوه منه بياء المتكلم.
ونظيرُهُ ما في الصحيحين: لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة، وفيه: "قال أبو طالب آخر ما كلمهم به: هو على ملةِ عبد المطلب"، ولم يقل الراوي: "أنا على ملة عبد المطلب"؛ تجنبًا لضمير المتكلم عند حكاية ما لا يُستحسَنُ نسبته إلى الحاكي.
فهذه النكتة المقصودة فيما يخطر لي، ولا مانع من القول بأن من النُّكَتِ أيضًا في التعبير بضمير الغائب هنا العلم بمن يعود إليه الضمير؛ فإن النُّكَتَ لا تتزاحم، لكن النكتة الأولى هي المنظور إليها بالقصد الأول، وهي أعرق في البلاغة في هذا الموضع، والنكتة الثانية تابعةٌ لها.
هذا ما يسَّره الله تعالى وأعان عليه، والله أعلم، وقد فرغت من تعليقه ليلة الثلاثاء (29/ 7/ 1446).


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع