مدونة الدكتور محمد ماهر محمد السيد عبيد


من بحثى : فقه الابتلاء فى كتاب الله العزيز

بروفيسور د . محمد ماهر محمد السيد عبيد | Prof Mohamed Maher Mohamed alsayed


01/03/2022 القراءات: 2603  



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
إنَّ الابتلاء هو قدر الله في جميع خلقه، ولكنه يزداد ويعظم في شدته على الأخيار الذين اجتبتهم عناية الله، وخاصة المجاهدين منهم لابد لهم من مدرسة الابتلاء, لا بد لهم من دروس التمحيص والتهذيب والتربية
ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقة خُفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة) ,
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان في الدنيا، فيقول الله عز وجل: اصبغوه في النار صبغة، ثم يؤتى به فيقول: يا ابن آدم هل أصبت نعيماً قط؟ هل رأيت قرة عين قط؟ هل أصبت سروراً قط؟ فيقول: لا وعزتك! ثم يقول: ردوه إلى النار. ثم يؤتى بأشد الناس كان بلاء في الدنيا، فيقول تبارك وتعالى: اصبغوه في الجنة صبغة ينصبغ فيها، ثم يؤتى به فيقول: يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت شيئا قط أكرهه).
يقول بن القيم فى زاد المعاد 3/18 : إن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلةٌ ظالمةٌ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية" اهـ
ولقد رأينا كيف ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم، بل أخرجوا منها رغماً عنهم، وقبلوا بذلك، وما أرخصه إذا كان الثمن رضوان الله والجنة، فأعقبهم الله تعالى- بعد سنوات من الدعوة والجهاد- بأن عادوا إليها فاتحين، وقبل ذلك وبعده أن الله تعالى رضي عنهم، وعن إخوانهم من الأنصار .
لقد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، إلى أن الابتلاء سنة كونية من سننه في هذا الخلق ، فقال سبحانه فى سورة العنكبوت الآية 3,2 ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) . فلا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد منه . والابتلاء يكون بالسراء والضرار لقوله سبحانه :فى سورة الأنبياء الآية 35 ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ). فلا بد للمؤمن من الصبر والشكر ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت, لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة أما الكافر فقد تنقطع عنه الفتنة في الدنيا ولكنه يصير إلى الألم في الآخرة (الفوائد لابن القيم : 201- 204).
وقد سئل الشافعي رحمه الله : أيما أفضل للرجل أن يُمَكن أو يُبتلَى فقال : لا يُمَكن حتى يُبتلى فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا - صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين - ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة ( الفوائد : 203 )
فمن سنية الابتلاء أن الله ابتلى أفضل خلقه وهم رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهم أفضل الدعاة إلى توحيده سبحانه ، فابتلاهم بالمرسَل إليهم حين يدعونهم إلى الحق والصبر على أذاهم ، وتحمل المشاق في تبليغ رسالات ربهم ( إغاثة اللهفان 2 / 161 )
والواقف على سيرته - صلى الله عليه وسلم - يرى ما حصل له من فتنة وبلاء أشد من هذا ، كالحصار في الشِّعب ، ووفاة عمه أبي طالب ، وزوجه خديجة وغير ذلك ، ولكنه كان صابرا محتسبا ، كما ابتلي نبي الله نوح بكفر قومه واستهزائهم به مع طول لبثه فيهم , كما ابتُلي ايضا بابنه وفلذة كبده ، حيث كان ممن أعرض عن دعوته. وابتُلي عليه السلام بزوجته حيث خانته . وكذلك ابتُلي نبي الله إبراهيم عليه السلام بقومه الذين لم يقبلوا دعوته ، وحاولوا الانتقام منه ولكن الله أنجاه . ونبي الله لوط ابتُلي بقوم لا يعبأون بأمر الله مستهزئون به وبدعوته ، حيث أتوا أمرا عظيما لم يسبقهم إليه أحد ، قال تعالى عنهم فى سورة العنكبوت الآية 29 ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) . كما ابتلى الله شعيبا حيث لم يستجب له قومه قال تعالى :كما فى سورة العنكبوت الآية 36 ,37 : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سورة العنكبوت الآية * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ كما ابتُلي نبي الله موسى بأنواع البلايا ، منها : تجرؤ فرعون وقارون وهامان وتسلطهم على عباد الله ، حتى وصل الحد بفرعون إلى أن ادعى الربوبية ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 39 (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) .
ولذا فإن موضوع الابتلاء من المواضيع التى اعتنى بها القران الكريم اعتناءً شديدا , فأتى بالكثير من النماذج وكيف تعامل المبتلون من الأنبياء والصالحين مع البلاء , وكيف أن الصبر وحسن الظن بالله واليقين فى الله كانوا هم العلاج والدواء النافع والشافى وحائط الصد المنيع تجاه الابتلاءات والنوازل .
ومن هنا فقد استقت واستلهمت من هذه النماذج وأروع الأمثلة التى ذكرها الله لنا فى كتابه العزيز هذا الموضوع الذى لا غنى عنه لأى مؤمن , فلا يوجد مؤمن على وجه الأرض ولا إنسان إلا ويبتلى بأنواع شتى من البلاءات


الابتلاء - الأنبياء - كتاب الله


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع