مدونة حسين سالم مرجين


من نظام التفاهة إلى نظام ما بعد التفاهة

حسين سالم مرجين | Hussein Salem Mrgin


22/09/2024 القراءات: 111  


لقد قرأت كتاب "نظام التفاهة" للدكتور آلان دونو منذ سنوات، والذي يتناول اتجاه بعض المجتمعات نحو تبني القيم السطحية كمعيار للنجاح. أعتقد أننا حاليًا نعيش في مرحلة جديدة تُعرف بمرحلة ما بعد التفاهة، حيث تظهر بوضوح مؤشرات انحطاط المعايير الأخلاقية والثقافية والاجتماعية.
يتجلى هذا النظام في مقولة "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق"، حيث أصبح هذا المفهوم واقعًا ملموسًا. ومن أبرز مؤشرات هذا النظام في الدول الغربية كان فترة رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية، التي عكست بشكل واضح هذا الاتجاه نحو السطحية.
في حياتنا اليومية، كثيرًا ما تصادفني عبارات ومفاهيم من ذلك الكتاب، خاصة في ظل انتشار محتويات ثقافية وإعلامية تتسم بالسطحية. يتضح هذا النظام بشكل خاص عندما نُجبر على الاستماع إلى بعض المسؤولين، الذين يتحدثون بأفكار سطحية تعكس انحطاطًا في القيم الأخلاقية والفكرية وتجاهلًا للمعايير الأساسية.
نتيجة لذلك، تُنتج هذه السطحية فوضى فكرية تعيد إنتاج نفسها في المجتمع، مما يتطلب منا التفكير في كيفية استعادة القيم الحقيقية وتعزيز العمق الفكري في حياتنا.
أصبحت ظاهرة التفاهة مجال اهتمام ملحوظ في علم الاجتماع، حيث أصابت مجتمعاتنا وشبكاتها الاجتماعية بهذا الوباء. لقد أصبح هناك خضوع لهذا النظام على حساب القيم الأساسية مثل التفكير النقدي، والإبداع، والتفاعل العميق، والأصالة. ونتيجة لذلك، دخلنا مرحلة جديدة تُعرف بمرحلة ما بعد التفاهة، التي عكست ظلالها على تفاصيل الحياة بجوانبها المتنوعة، بما في ذلك الجوانب النفسية، نظرًا لأنها مرتبطة بالبنية الذهنية للمجتمع.
وللمزيد من الإيضاح والتبسيط، يمكن القول إن القاعدة الأساسية لهذا النظام هي أن السطحية أصبحت السلوك السائد في المجتمع، لتكون قدوة للجميع. هذه الظاهرة ليست مجرد مصادفة عابرة، بل هي نتيجة مباشرة لزيادة إنتاج هذا النظام وتعمقه في الثقافة السائدة. وبالتالي، لا ينبغي أن نستغرب عندما نجد أن التفاهة أصبحت الجسر الذي يربط بين التفاهة والمسؤولية في إدارة مؤسسات الدولة. لقد وصل الأمر إلى أن التفاهة باتت الوسيلة السحرية للتخلص من أيّ عوائق تحول دون الوصول إلى إدارة الدولة.
الأكثر إثارة للقلق هو أن التفاهة أصبحت مصدر إلهام للشباب، حيث توفر لهم المناخ الذي يمكنهم من تحقيق طموحاتهم، رغم تأثيرها السلبي على القيم الحقيقية. في هذا السياق، أصبح موجهو نظام التفاهة يمتلكون وسائل السلطة، مما يعني أن نظام ما بعد التفاهة قد سيطر على المجتمع وشبكة علاقاته الاجتماعية. وبذلك، أصبح هؤلاء الموجهون يتحكمون في مسارات المجتمع وتوجهاته.
يتجلى هذا النظام من خلال توجه وسائل الإعلام نحو قضايا تتسم بالسطحية، مثل الانشغال بحياة المؤثرين وسهراتهم ومصروفاتهم ومشترياتهم. إن هذه الموضوعات تساهم في تعزيز ثقافة التفاهة، مما يعكس انحرافًا عن القيم الحقيقية.
تُعتبر هذه الظاهرة كارثية بشكل خاص عندما تنتشر في الأوساط التعليمية. فالمؤسسات التعليمية ينبغي أن تكون منصة لإنتاج الأفكار العميقة وتعزيز القيم الحقيقية. ومن أبرز مؤشرات هذا التفشي عمليات الغش التي يساهم فيها بعض المعلمين، بالإضافة إلى زيادة حالات الانتحال العلمي. إن تفشي السطحية في المؤسسات التعليمية يُهدد مستقبل الأجيال القادمة، وهو سلوك تخريبي يقوم به هؤلاء الذين يسعون للمزايدة والتضليل واستنزاف الأخلاق.
ومن المهم أن ندرك أن وجود هذا النظام لا يسير في سياق سهل أو بدون مقاومة. هذا التصور يقترب من فكرة مالك بن نبي، الذي طرح مفهوم أن نظام المجتمع يشبه محركًا، حيث تدفع بعض أجهزته نحو الأمام بينما تدفع أخرى إلى الخلف. في هذه الحالة، يسعى نظام ما بعد التفاهة إلى دفع المجتمع إلى الوراء، من خلال تدمير أخلاقياته وقيمه. وهذا يعني أن هناك حاجة ملحة لتفادي تلف هذا "المحرك" لضمان تقدم المجتمع واستعادة قيمه الأساسية.
وعلى أي حال، سواء قبل البعض أو لم يقبل هذه الوجهة النظر، فإنه من المؤكد بالنسبة لي أن هناك تراجعًا حقيقيًا في القيم الأخلاقية والفكرية. ولكن، نظرًا لأنه تراجع تدريجي، فإنه لم يلفت الانتباه بالشكل المطلوب.
وهكذا يتضح لنا من التحليل السابق بأنه من الضروري العمل بجد على إعادة بناء نظام القيم والتربية في المجتمع، والتركيز على تطوير وتحسين النظام التعليمي ليشمل القيم الأخلاقية، والتفكير النقدي، والعمق الفكري، لتعزيز فعالية المجتمع نحو البناء والتنمية والإنتاج الحقيقي الفعال.


نظام ما بعد التفاهة - القيم الاخلاقية والفكرية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع