لا جرم أنّ نوازل الحياة ومستجدات الوقائع في مخاض مطرد متلاحق، وهو مما يستدعي بحقٍّ إلى النّاظر ببصائر الدّين والفتوى الرشيدة بين الواجب والواقع لعقد الموازنة بين المصالح والمفاسد في مورد التزاحم أو التعارض، وأنّ تغليب المصلحة على أختها والمفسدة على نظيرتها القائمُ على فقه الموازنة لا يستقيم إلا بميزان مقاصد الشرع حفظا وتحصيلا؛ ليتمّ بذلك تنزيل المراد الشرعيّ على محلّه، وتحقيق الحكم باستيفاء مآله.
ويتجلّى أهميّة فقه الموازنات في القضايا المعاصرة من حيث كونُه: مفهومَ الجزئيات بالكليات، واستصحاب أفراد الأدلّة بالمقاصد، وحفظَ المساق الحكميّ عن إهداره، ومأمنَ الناس من الاغترار بالرأي الشاذ، وجلبَ خير الخيرين ودرءَ شرّ الشرين على مسلكٍ اجتهاديٍّ راشد.
إنَّ من إتمام نعمة الله ـ تعالى ـ علينا أن جعل لنا هذا الدّين قائمًا على مصالح العباد؛ فما من خير إلا ودعنا إليه ورغبنا فيه، ومن من شرٍّ إلا وحذرنا ورهبنا منه، وإنّ من إكمال هذا الدين أن جعل الشرع لنا أماراتٍ تضمنّ قواعد وموازين يتحرّاها المجتهد في بذل الوسع لنيل حكمٍ شرعيّ؛كي تكفل له ـ تلك القواعد والموازين ـ ضبط الموازنة بين المصالح والمفاسد في مورد التزاحم أوالتعارض.
ولما كان مجال الموازنة يكاد ينحصر في مسائل ووقائع لا نصّ فيها، في مجالات واسعة شتّى؛ كمجال المعاملات والمجال السياسي والمجال الاقتصادي وغير ذلك؛ انقدح في ذهني جوابًا لجملة من الأسئلة:
• ما ماهية فقه الموازنة ومفهوم القضايا المعاصرة في التشريع الإسلامي؟
• كيف يتمّ ضبط الموازنة في عملية الاجتهاد للظفر بالحكم الرشيد على الواقع المعيش؟
• ما السبل التي تعين الموازن على الكشف عن مراد الشرع للوقائع المستجدّة؟
• كيف يتحقّق الترجيح بين المصالح والمفاسد إذا اجتمعت في مورد التزاحم أو التعارض ؟
فجاءت هذه الدراسة في أربعة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: تحديد مفهوم فقه الموازنات ومصطلح القضايا المعاصرة.
المبحث الثاني: الموازنة والاجتهاد.
المبحث الثالث: الموازنة واعتبار المآل.
المبحث الرابع: الموازنة والترجيح.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج وبعض التوصيات.
وقد نهجت في هذه الدراسة المنهج التحليلي الاستقرائي يقوم على قواعد البحث العلميّ في ترتيب المادة العلمية، وتوثيق النقول من مظانّها، وتخريج الأحاديث وبيان حكمها إن كانت في غير الصحيحين؛ والله أسأل أن يتقبّل منّي هذا العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.