العدد الثالث عشر مقالات
لغويات قرآنية 5 / مقالات
17/02/2022
د.بسام الأغبر
الحمد لله الذي أنزل الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، والصلاة والسلام على نبيه العربي البشير النذير، وعلى من سار على دربه إلى يوم الدين، وبعد،
فيسعدنا أن نلتقي وإياكم، بعد وداع شهر القرآن الكريم، شهر رمضان العظيم، ونسأله تعالى، أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، واسمحوا لنا، قبل أن نبدأ في تفصيل حلقة اليوم، من لغويات قرآنية، نتذكر، وإياكم، واجبنا نحو القرآن الكريم، بعد شهر رمضان المبارك، ويمكن تفصيل ذلك، في أربعة محاور، هي:
المحور الأول: ورد القراءة اليومية؛ أي أن يتلو الإنسان في اليوم جزء يومي أو نصف جزء على أقل تقدير، امتثالاً لقوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4]، ولسنة النبي المصطفى الذي قال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللهِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةُ مَنْ تَبِعَهُ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ فَاتْلُوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: {الم} [البقرة: 1] حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً «.
المحور الثاني: محور التدبر: أي نتدبر كلام الله، امتثالاً لقوله تعالى: تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
وسُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ رَجُلَيْنِ قَرَأَ أَحَدُهُمَا الْبَقَرَةَ، وَقَرَأَ آخَرُ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ رُكُوعُهُمَا، وَسُجُودُهُمَا، وَجُلُوسُهُمَا سَوَاءً، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟، قَالَ: «الَّذِي قَرَأَ الْبَقَرَةَ»، ثُمَّ قَرَأَ مُجَاهِدٌ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]
فالأصل في الإنسان المسلم، أن يخصص، في اليوم الواحد، وقتاً، لمعرفة معنى كلمة أو آية، وهناك كتب كثيرة جداً، يمكن العودة إليها، وهي سهلة، وواضحة، منها: صفوة التفاسير، تفسير الجلالين، مختصر تفسير ابن كثير... الخ
المحور الثالث: محور الحفظ:
فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا «
المحور الأخير: محور العمل به:
قال الله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155].
أنزل الله القرآن لتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، ولم يُنزل هذا الكتاب العظيم، لنفرحَ بأصوات القراء، جزاهم الله خيرا، وإلا كنا مثل الأقوام السابقة الذين قال الله فيهم: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5]
وقد حذَّر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابَه من أفعالِ طائفةٍ تأتي مِنْ بعدهم يقرؤون القرآن، غيرَ أنَّ القراءة لا تتعدَّى حناجرهم، وتبقى في حيِّز الأصوات بلا عمل، فقال: (يَخْرُجُ في هذه الأُمَّةِ قومٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمُ مَعَ صَلاتِهمُ، يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أو حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرِقُونَ مِنَ الدِّين مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
ونسأله تعالى، أن نكون ممن يقرأ القرآن الكريم ويرقى، ولا نكون ممن يقرأه ويشقى.
ونقف اليوم، في لغويات قرآنية أمام حذف (أنْ) في سورة هود: {ﻭﻟﻤﺎ ﺟﺎءﺕ ﺭﺳﻠﻨﺎ ﻟُﻮﻃﺎً ﺳِﻲءَ ﺑِﻬِﻢْ ﻭَﺿﺎﻕَ ﺑِﻬِﻢْ ﺫَﺭْﻋﺎً} في حين ذكرت في سورة العنكبوت:{ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﺎءﺕ ﺭﺳﻠﻨﺎ ﻟُﻮﻃﺎً ﺳِﻲءَ ﺑِﻬِﻢْ ﻭَﺿﺎﻕَ ﺑِﻬِﻢْ ﺫَﺭْﻋﺎً} مع أن السياق القرآني في الموضعين يتحدث عن قصة واحدة، وهي قصة لوط، عليه السلام؟
أولاً- ذكرنا كثيراً، أن السياق القرآني له ترتيبه العجيب، وكل كلمة في القرآن الكريم تعشق موقعها، الذي لا يمكن أن يسده غيرها.
ثانياً- هنالك أحكام في النحو العربي لا يمكن أن ننزلها على القرآن الكريم؛ إذ تُعد (أنْ) بعد لما زائدة، ولا يوجد زيادة في القرآن الكريم.
ثالثاً- إن العودة إلى السياق القرآني يعطينا تفسيراً لذلك؛ ففي سورة هود{ﻭﻟﻤﺎ ﺟﺎءﺕ ﺭﺳﻠﻨﺎ ﻟُﻮﻃﺎً ﺳِﻲءَ ﺑِﻬِﻢْ ﻭَﺿﺎﻕَ ﺑِﻬِﻢْ ﺫَﺭْﻋﺎً ﻭَﻗﺎﻝَ ﻫﺬا ﻳَﻮْﻡٌ ﻋَﺼِﻴﺐٌ ٧٧} واستمر التفصيل في أحداث قصة لوط حتى الآية ٨٣،
في حين جاء في سورة العنكبوت: {ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﺎءﺕ ﺭﺳﻠﻨﺎ ﻟُﻮﻃﺎً ﺳِﻲءَ ﺑِﻬِﻢْ ﻭَﺿﺎﻕَ ﺑِﻬِﻢْ ﺫَﺭْﻋﺎً ﻭَﻗﺎﻟُﻮا ﻻ ﺗَﺨَﻒْ ﻭَﻻ ﺗَﺤْﺰَﻥْ ﺇِﻧَّﺎ ﻣُﻨَﺠُّﻮﻙَ ﻭَﺃَﻫْﻠَﻚَ ﺇِﻻَّ اﻣْﺮَﺃَﺗَﻚَ ﻛﺎﻧَﺖْ ﻣِﻦَ اﻟْﻐﺎﺑِﺮِﻳﻦَ ٣٣}، واستمر الحديث حتى الآية ٣٥،دون ذلك التفصيل الذي جاء في سورة هود.
أخيراً- يعود عدم ذكرها في سورة هود؛ لأن الآيات فيها فصلت القصة وذكرت أدق تفاصيلها، ذلك كله أغنى عن ذكر (أنْ) في هذه الآيات الكريمة.
في حين، جاءت (أنْ) في سورة العنكبوت؛ لأن الآيات فيها مختصرة، وغير مفصلة، فجاءت (أنْ) للتأكيد، والترتيب؛ أي تأكيد سبب إساءةِ سيدنا لوط وضيقه، فأظهرت (أنْ) وجود صلة بين (اﻟﻔﻌﻠﻴﻦ ﻣﺘﺮﺗﺒﺎ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻵﺧﺮ ﻓﻲ ﻭﻗﺘﻴﻦ ﻣﺘﺠﺎﻭﺭﻳﻦ ﻻ ﻓﺎﺻﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ) كما قال الزمخشري.
وعلى ذلك نؤكد أن كل كلمة في القرآن الكريم تعشق موضعها.
العدد الثالث عشر لغويات قرآنية