مدونة صلاح عبدالسلام قاسم الهيجمي


اللّسانيّات الخطابيّة عند بافو وسرفاتي (1)

صلاح الهيجمي | Salah Abdulsalam Qassim Alhaigami


21/06/2020 القراءات: 2588  


الأستاذ: صلاح عبدالسلام قاسم الهيجمي
صدر عن المنظمة العربية للترجمة كتاب (النظريات اللّسانية الكبرى: من النحو المقارن إلى الذرائعية) لــ(ماري آن بافو وجورج إليا سرفاتي) ترجمة محمد الراضي، عام 2012م، ويحتوي على (478) صفحة موزّعة على أحد عشر فصلاً. وتمثل هذه "النظريات الكبرى" عرضاً واضحاً للتطوّرات الأساسية في حقل اللسانيات، وتنبني على استحضار شامل لإسهام كتاب دو سوسور (دروس في اللسانيات العامة) في هذا الحقل.
وكانت اللّسانيّات الخطابيّة إحدى المقاربات التي درسها ماري آن بافو وجورج إليا سرفاتي؛ لأنها مرتبطة بالدراسات اللغوية الحديثة، وتحدّد واقع مجالات علم اللغة التي تتجاوز الرهانات اللسانية المحصورة في موضوعات الصرف تركيبية، لتصل بعدها إلى مسارات بحث حديثة تتكون من ثلاثة أقسام: اللّسانيات النصيّة (آدمAdam)، وتحليل الخطاب (مانغونوMaingueneau)، ودلالة النص (راستييهRastier). وهو ما سأتناوله بالعرض في هذه المقالة العلمية المقسمة إلى ثلاثة أجزاء.
أولًا: اللسانيات النصية
في قراءة جغرافية وتاريخية للّسانيات النصيّة يؤكد بافو وسرفاتي أن اللسانيات الأوروبية تشكلت مبدئياً بناءً على المسلّمة السوسورية المحتفية باللغة، التي كانت نتيجتها إلى حدود السبعينيات إبعاد النصوص والخطابات من الجمل. وفي مستهل الخمسينيات أثار (هاريس) قضيتي البعد عبر الجملي وعلاقة الثقافة باللغة التي أعيد تناولها من لدن (بيك). وجاء (لونغاكر) لينمّط الخطابات عام 1968م. وتبعهم كتاب (هاليداي وحسن) الذي صدر في عام 1976م تحت عنوان Cohesion in English)) ليشهد على آدمية الاهتمام بالنصوص في اللسانيات الأمريكية ولاسيما في أعقاب الوظيفية. وللألمان تقليد يخص اللسانيات النصية وهو ذو توجه نحوي. أما في فرنسا فإن مجالي السيميائيات وتحليل الخطاب هما اللذان اهتمّا بالعمل على مجال الكلام، لكن المحاولات الجادة التي تروم تأمل النص كانت نادرة جداً.
ومن هذا الجو الجغرافي العلمي وُصف (اللسانيات النصية) بأنه أحد تخصصات علوم اللغة التي تنبني على موروثات تاريخية متعددة وأهمها: الفرضيات البنيوية المتضمّنة لفكرة أن النصوص والخطابات المسمّاة بالوحدات الأكبر من الجملة تخضع لتنظيم الجمل، وتعود صياغة هذه الفرضية إلى (ريكور)، والسيميائيات الأدبية، ممثلة في فرنسا بـ(هودبين وكريستيفا وبارت وجينيت وغريماس) ومدرسة باريس؛ إذ يتم الاشتغال كذلك على موضوع النص الذي تتجاوز أبعاده إطار الجملة، والسيمولوجيا التي يمثلها على سبيل المثال كل من (غريس وبوريل)، وتنحو بالتحليل كذلك نحو البعد النّصي للنتاجات الشفهية، ولا ينبغي نسيان اللسانيات الاجتماعية لـ(لابوف) الذي يشتغل على المحكي الشفهي بشكل خاص، و(كوليولي وكاترين فوكس). وما جاء في علم الاجتماع عند (غوفمان) حول المحادثة، واللسانيات النصية التي تتبنى إنجازات البلاغة القديمة والكلاسيكية الجديدة (بلاغة بيرلمان الجديدة)، مدمجة ذلك كله في مسارات ومناولات جديدة.
ويشير بافو وسرفاتي إلى أن الإعداد النظري الأكثر اكتمالاً في اللسانيات حول مفهوم النص يعود إلى سويسرا مع جان ميشال آدم، المولود عام (1946م)؛ وهو تيار لساني سُمي باللسانيات النصية، وظهر أواخر الستينيات في سياق معرفي هيمنت عليه لسانيات الجملة؛ نتيجة لثقافة النحو التقليدي وتأثير النحو التشومسكاوي والتحويلي، وبعد استقراره كتخصص علمي أخرج الدرس اللساني من ضيق الجملة إلى سعة النص، وأسس لتخصص آخر سُمّي بتخصص تحليل الخطاب. وكأن هناك استمرارية وعلاقة متدرجة تبدأ بالجملة ثم النص فالخطاب. وهو ما يصفه آدم بقدرة استمرارية الخطاب من خلال تحديد العلاقات بين الجمل والنصوص، وهذه القدرة العامة تتعزز بقدرة تخص الأشكال الكبرى لإعداد النص وأجناس الخطاب.
ويبدو أن العلاقة بين النص والخطاب بدأت تتشكل في عام 1969م عندما ترجمت عبارة Discourse Analysis)) بـ(تحليل الخطاب) التي كان (هاريس) قد وضعها عام 1952م إلى اللغة الفرنسية بعبارة (تتبع الخطاب Suivi Discourse)، وهو شبه مرادف للسانيات النصية. وظهرت العلاقة جلية عندما قدّم (آدم) هذه العلاقة في صورة معادلة رياضية كالآتي:
الخطاب = النص + ظروف الإنتاج.
النص = الخطاب – ظروف الإنتاج.
وهذا يدل على أن هناك ترابطاً بين النص والخطاب، وأن الخطاب وحدة دلالية، وبتعبير آخر فالخطاب ملفوظ يتميز بخاصيات نصية بوصفه فعلاً خطابياً أنجز في وضعيات معينة، أما النص فهو موضوع مجرد ناتج عن نزع السياق عن الموضوع المحسوس، وقيل بأن موضوع الخطاب يُدمج السياق، في حين أن النص يُبعد السياق.
وهذا يقودنا إلى مقاربة معرفية تتجه نحو النص بنظرية (فان ديك)؛ التي تندرج أعماله ضمن إطار التقليد الألماني والنرويجي في مجال اللسانيات النصية، ويستند نحو النص عنده إلى مسلّمتين رئيستين هما: مشابهة النص للجملة؛ أي أن نحو النص نموذج مستوحى من نحو الجملة وكأنه امتدادٌ لنحو الجملة، ووجود نحو نصيّ توليدي يعمل على معرفة الإنتاجات اللفظية، ويشمل على جانبي التأويل والإنتاج وفقاً لهندسة ذات مستويات ثلاثة هي: المستوى البنيوي الدِّقي، ويخص القضايا القاعدية ويناسب أفعال الكلام، ويشتغل بالطريقة الدلالية، والمستوى البنيوي الكِبري، ويخص القضايا الكبرى، ويشتغل بالطريقة المعرفية. والمستوى البنيوي الأعلى ويخص القضايا العليا، وهي تنظيمات توافقية تخوّل للمتكلم التعرّف على النص المحكي أو الحجاج أو الحوار...إلخ بواسطة مفاهيم كبرى للّسانيات النصية أوردها المؤلف تحت مسميات مترابطة فيما بينها: التماسك والاتساق والتدرّج الموضوعاتي والتنميط النصي، وهو ما سنعرفه في الجزء الثاني من هذه المقالة.


النص، الخطاب، اللسانيات الخطابية.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع