قراءة نقدية لرواية "قدر الحساء" للكاتب د. محمد سالم الشرقاوي
20/12/2022 القراءات: 1688
بداية لا بدّ من التّنويه، إلى أنّ هذه الورقة أو القراءة التي أقدمها ليست من مهامّها إعطاءُ أحكامٍ نقديّةٍ جاهزة، أو النبش في الحسنات والعيوب ، وإنّما نحسبها قراءة تأخذ أحكامها ووسائلها الإجرائيّة من خلال هذه التّجربة الإبداعيّة، من منطلق أنّ لكلّ نصّ روائيّ منطقه الفنيّ وكيانه المستقلّ.
في العتبات كما في العنوان كلمتان قدر و حساء .. وهما من الناحية النحوية خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا .. في حين يليه تعبير صريح عن طبيعة الجنس الأدبي وهي رواية من ثنائية السيرة والإخلاص .. وسرعان من تنهال الأسئلة عن القدر غير المعرف والحساء .. وعن القصدية من السيرة والإخلاص ..
هكذا، نجد أنفسنا بعد كلمة الناشر والمنطوق القرآني ومأثور باولو كويلو، أمام منهجيّة هي بحدّ ذاتها لا منهجيّة في خلق هذا الإبداع الرّوائيِّ، الّذي بزغ إلى النّور من خلال التّفككّ والتّشظّي، ومن خلال التّمرّد على كلّ الأنساق المعروفة في التّصدّي لهذا النّوع من الأنواع الأدبيّة .
إن أهم ما يميز رواية "قدر الحساء" للروائي الدكتور محمد سالم الشرقاوي الصادرة حديثاً عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، هي تلك الحيرة التي نجد أنفسنا غارقين فيها منذ بداية الرواية حتى نهايتها، وإن الدهشة التي أصابتنا ناتجة عن الكفاءة العالية للرواية، فلا أخفيكم سرا أني قرأت هذه الرواية مرتين وفي كل مرة كان تترسب بداخلي مفاهيم جديدة منها ما هو صوفي متعلق بالصحراء وفضاءها وآخر بالوطنية ورمزية وتشابكات أحداث الرواية وأحيانا أخرى بالسوسيولوجيا ملتصقة بحيثيات العيش وتفاصيل حياة أهل الصحراء آنذاك زمن الرواية. حينها نفهم أن كل شيء ممكن، كل شيء يتحرك نحو الممكن، ويظهر بعد معرفة الأحداث أنه لا يمكن حدوثها إلا وفق هذا التجلي. هذا التحول والتدافع بين الخير والشر بين الانصياع والتمرد .. بين الاستقرار واللااستقرار ... إنّ طريق القراءة في رواية قدر الحساء، وعرةٌ شائكةٌ، هكذا تبدو للوهلةِ الأولى من القراءةِ الأولى، لكن، عندما نخوضُ بحارَها ونغوصُ في دواخِلِها ، وتتكشّف الأقنعة، ترانا أمام رواية ليست ككلّ الرّوايات، ولكنّها لا تخرج عن الإطار المرسوم لهذا الجنس الأدبيّ القديم الحديث.
هذا وأنت في نشوة القراءة .. لا ترى فقط العذاب والحسرة في عيون شخوصها(لمغيفري والشراد)، بل ترى أيضاً الشوق والأمل(ام الخير وادريديحة والقبطان منصور)، وتتلمس العطش للحب والحياة بكل ما يعتلج في قلوبهم، من هنا نقلب صفحات الرواية ومن هنا نجد القارئ بين العواطف وجزرها، بين اليأس والرجاء بكل القلق الذي يصاحب المتغيرات المتسارعة، والتحولات المتعاقبة، فالتيه والضياع والخذلان هي مباضع التلقي التي تنخر جنبات القارئ.
لا ضير أن تبدأ الرواية، بتوطئة دالّة موجّهة، بيد أن تكون التّوطئة وفق الكاتب، مبعثِرةً لكلّ أنساق الرّواية، تجابهنا بالتّشظّي والتشيّؤ، وتأخذنا إلى الانفلات من حواجز الإبداع، لا بدّ حينها أن نقف وقفة الحازم المتأنّي، لنرى إلى أيّ مدى كُسِرت الحواجز، أم أنّها اتّسعت وطالت، لتستوعب خصوصية رواية الصحراء كجنس أدبيّ زّئبقيّ دائم النضج والتّجديد.
فيجيبنا الكاتب بسرعة فائقة مع مستهل الحكي وكأنه يوجه البوصلة ويعد الراحلة لسفرنا:
"أي تشابه بين الأسماء والأحداث والوقائع والأمكنة في هذه الرواية مع الواقع هو محض صدفة ليس إلا" ..
من هنا بدأ المسير على بركة الله لينتصب أمامنا المجال مزهوا بلغة مدججة بالمحسنات البلاغية ومكثفة التعبير والايماءات، وكأن الكاتب يسعى منذ البداية إلى ملء الفراغات to fill in the voids عبر وصف طوبوغرافي يحدد هوية الرواية حيث يقول الراوي:
خبر الصحراء من سير أهلها وفتن بجمال الضحى والنهار والليل فيها وطبيعتها وإبلها وخيلها وأشجارها ، تتفاخر بحسانها وتستطلع أخبار ركابها وهي تذرع الأرض وضياء الأيام وفي السرى، تحمل أحسن الذكر من عظماءها وعن شمائلهم وسماتهم الجلى في الشجاعة والشهامة والسمو، يعرفون أديم الأرض وما يدب عليها، ويحسنون الإنصات لترانيمها ويتجاوبون مع ذلك بإيماءات جسورة لا تخلو من عفة ووقار تشبه نقرات أصابع اليد حين ترتاح للموسيقة".
لفخامتكم أيها القراء أن تلحظوا عقب هذا الاستهلال كل الإيحاءات والدّلالات والتّقنيّات الفنيّة المعروضة بلغة مجازية مكثّفة، تحثّ ذائقة أيّ عاشق للتفاصيل وفي التفاصيل يكمن الإبداع في هذه الرواية.
(التتمة في الجزء الثاني)
قراءة نقدية - رواية قدر الحساء - محمد سالم الشرقاوي -
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة