مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


رعاية الشيخوخة في الإسلام (3)

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


07/02/2025 القراءات: 3  


وجعل الإسلام الشيبَ نورًا ووقارًا وثوابًا وأجراً كبيراً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلِمٍ يشيبُ شيبةً في الإسلامِ إلَّا كانت لَهُ نورًا يومَ القيامةِ) [رواه أبو داود] وفي رواية: (إلَّا كتبَ اللَّهُ لَهُ بِها حسنةً وحطَّ عنهُ بِها خطيئةً) [أخرجه الدارمي].
لذلك جعل الله تعالى لهم حقاً على المجتمع إذا احتاجوا أن يعينوهم، وإذا افتقروا أن ينفقوا عليهم، فلا يهملونهم ويتركونهم لعوادي الزمن، وإنما كما خَدَموا في شبابهم يُخْدَموا في هرمهم، وكما قدَموا للمجتمع في قوتهم يحملهم المجتمع في حال ضعفهم وعجزهم، حتى وإن كانوا غير مسلمين، فقد جاء في كتاب (الخراج) لأبي يوسف القاضي، شيخ الحنفية رحمه الله تعالى: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر. فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الحاجة، والسن.
قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بيده، فذهب به إلى بيته، فأعطاه بعض ما عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وأمثاله، والله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم! {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ} [التوبة:60]، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضَع عنه الجزية وعن أمثاله ومَن هُم في سِنه في جميع البلاد الإسلامية.
وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما صالح أهل الحيرة وجاء في صلحه معهم أنه قال: "وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين". [كتاب الخراج، لأبي يوسف: 306].
حتى في الحروب فإن حقوق المسنين مصانة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيشاً أو سرية دعا صاحبهم، فأمره بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيراً، ثمَّ قال: "اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، لا تغُلُّوا ولا تغدِروا ولا تُمثِّلوا ولا تقتُلوا وليدًا ولا امرأةً ولا شيخًا". [رواه الطبراني في الأوسط].
وأما من جهة عبادة الشيوخ لربهم، فإن الله تبارك اسمه، وهو الشكور، قد شكر لهم ما قدموه في سالف الأعمار، فلما كبرت أسنانهم، وضعفت أبدانهم يسر عليهم وجعل لهم الرخص والمعاذير، فمن لم يقدر على الصلاة قائما صلى قاعداً، ومن ضعف عن الصيام وضع عنه الصيام وأمره بالإطعام، ومن كتب عليه الحج ولم يتحمل بدنه شرع له أن ينيب من يحج عنه.
وأمر باعتبار هذا السن الكبير بالالتفات إليه وعدم تجاهله حال حضورهم العبادات، فقال: (إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فإنَّ منهمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ، وإذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شَاءَ) [رواه البخاري].
وهكذا يبث الإسلام الطمأنينة في تلك المرحلة المتأخرة من العمر، ويبشر الإنسان بأن الحياة القادمة ستكون أفضل، وأن الخالق سبحانه وتعالى لا يُعد له الشر والعذاب، ما دام يعترف له بوحدانيته ويقدم التوبة على ما سبق من أفعاله، ويبدي الندم على ما فاته من أعمال صالحة.
أما مرحلة الشيخوخة المتأخرة فتبدأ من بعد سن الخامس والستين، وتشهد انتكاسًا في الخلق، ورِدة إلى أرذل العمر (الزهايمر)، وقد وصفها القرآن الكريم وصفًا دقيقًا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70].
لكن يرى الفخر الرازي أن هذا ليس في المسلمين حيث قال: "والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يجوز أن يقال في حقة إنه يرد إلى أرذل العمر، والدليل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5-6]، فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين، وقال عكرمة: (من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر).
ومن المظاهر النفسية التي يعاني منها المسنون وينبغي وضعها في اعتبار الأبناء في رعايتهم لآبائهم في الكبر: شعور المسن بالعزلة والاغتراب وهي حالة نفسية تجعل المسن يشعر بأن هناك حاجزًا نفسيًا يفصله عن الآخرين ويشعر بعدم انتمائه إليهم، ويرجع ذلك إلى رحيل عدد من أبناء جيلهم الذين يشاطروﻧﻬم الذكريات والقيم والأعراف، ويشاطروﻧﻬم ماضيهم بحلوه ومره، بالإضافة إلى عيش المسن وحده حيث ينفصل عنه الأبناء المتزوجون في السكن فيعيش وحيدًا، ويزداد ذلك لو كان هؤلاء الأبناء لا يتعاهدوﻧﻬم بالزيارات المتكررة، أو كان المسنون ليس لهم أبناء على قيد الحياة.
وقد كانت رعاية الوالدين في حال كبرها أحد صفات النبي يحيى عليه السلام التي امتدحه الله تعالى ﺑﻬا حين قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، وذلك في سياق ذكر ولادته بعد تضرع أبيه زكريا عليه السلام أن يرزقه هذا الولد حال كبر سنه الموصوف في صدر السورة، (والبَرّ) الكثير البر، والجَبَّار: المتكبر، وقبله وصف يحيى عليه السلام بقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:13] والحنان: الرحمة والشفقة والمحبة، وكلها صفات تعكس مقدار رعايته بوالديه فهو كثير البر غير متكبر، ورحيم ومحب.
وأخيراً: فإن توقير الأكابر من الواجب علينا، إذ هم بركةً لنا في حياتنا، وازدياد في أرزاقنا وفي أعمارنا، أما الإساءة إليهم وسوء معاملتهم قد نجازى به في أواخر أعمارنا.


رعاية الشيخوخة، الشباب، الطفولة، أرذل العمر، شيبة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع