مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


الوظيفة: قيدٌ على الإبداع وطريقٌ إلى الرتابة

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


23/12/2024 القراءات: 13  


لطالما ارتبط مفهوم الوظيفة في أذهان الكثيرين بمصدرٍ للدخل والاستقرار، إلا أن نظرةً فاحصة تكشف عن جوانب أخرى أكثر عمقًا، تُظهر الوظيفة في صورتها النمطية كقيدٍ على الإبداع وطريقٍ مُعبّد نحو الرتابة. فالوظيفة، وإن كانت تستر صاحبها ماديًا، إلا أنها نادرًا ما تُثريه فكريًا أو ماديًا بالمعنى الحقيقي للثراء. بل إنها في كثير من الأحيان تُقزّم العقل وتكبحه، فالعقل كالعضلة، يقوى بالتعقل والتفكير والتجديد، ويضعف بالإهمال والتكرار. وتكرار نفس المهام الروتينية يومًا بعد يوم يُخنق الروح ويُؤذي النفس ويُضعف الجسد، بل ويُلغي العقل تدريجيًا، ما يُحوّل الإنسان إلى ترسٍ صغير في آلةٍ ضخمة لا يرى من عمله إلا جزءًا ضئيلًا لا يُحفّز على التفكير أو الإبداع.

تاريخيًا، كانت الوظائف التي تتسم بالتكرار والتبعية من مهام العبيد، لأنها أعمال تُنافي الحرية وتقتضي الخضوع لأوامر الآخرين. هذه الخصائص، التي لا تزال تُلازم الكثير من الوظائف حتى يومنا هذا، جعلت منها مصدرًا للرتابة والملل، ومبعثًا على الخمول والكسل، حتى أصبحت منتهى أمل وشغف كل كسول خامل لا يسعى إلى التطور أو النمو.

في المقابل، يُمثّل العمل الحر عالمًا آخر، عالمًا مليئًا بالمتعة التي تبعث الروح وتُؤنس النفس وتفتح آفاق العقل وتُقوّي البدن. إنه منطلق الثروة الحقيقية ومبعث الهمة والإبداع، لكنه في الوقت ذاته يتطلب صفاتٍ لا يمتلكها الكثيرون، كالحرية والشجاعة والثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية.

إن الوظيفة، بهيكلها الحالي، تُساهم بشكل كبير في تكريس عدم المساواة، فهي تُحوّل الثروات إلى يد أرباب الأعمال وتُعمّق الطبقية في المجتمع، ما يحرم الجموع من فرص الترقّي الاجتماعي والاقتصادي. كما أنها من عوامل شيوع الاستهلاك التفاخري على حساب الإنتاج والاحتياجات الحقيقية، الأمر الذي يُؤدّي إلى نشوء الأزمات الاقتصادية على المستويين الفردي والمجتمعي.

ولا يقتصر تأثير الوظيفة السلبي على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب الأخلاقية والنفسية أيضًا. فالبيئة الوظيفية، بتركيزها على التبعية والخضوع، تُصبح مرعى خصبًا للكثير من الأخلاق الذميمة والأمراض الاجتماعية، كالشح والنفاق والخنوع والرياء، فضلًا عن الهموم الدائمة المُتمثلة في الخوف من الاستغناء عن الموظف. كما أن هذه البيئة تُشجّع على انتشار النميمة والمنافسة غير الشريفة بين الموظفين، ما يُؤدّي إلى تدهور العلاقات الإنسانية.

أخيرًا، يُمكن تفسير شغف الشباب بالوظيفة وسعيهم الحثيث إليها بعاملٍ مهم، وهو طول السلم التعليمي. فمع انتهاء المرحلة التعليمية في سنٍ مُتأخرة نسبيًا (حوالي 22 عامًا)، لا يجد الشاب الوقت الكافي للمخاطرة في البحث عن عمل حر قد ينجح وقد يفشل، فيُفضّل الخيار الأكثر أمانًا، وإن كان أقل إثراءً، وهو الوظيفة.

ختامًا، لا يُمكن إنكار أهمية الوظيفة كأحد مصادر الدخل، لكن من الضروري إعادة النظر في مفهومها وهيكلها، والعمل على خلق بيئة عمل تُشجّع على الإبداع والابتكار والتطور، بدلًا من تكريس الرتابة والخمول. كما يجب العمل على إصلاح المنظومة التعليمية بما يُتيح للشباب فرصًا أكبر للاكتشاف والتجربة وبناء مستقبلهم بأنفسهم.

#الغنيمي
#رؤية_للنهوض_الحضاري
#رؤية_لإصلاح_التعليم


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع