أن تكون حرا... عن الحرية المسؤولة والبنَّاءة أتحدث 2-3
يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi
19/09/2021 القراءات: 1941
الحرية ... حدود وضوابط
الإسلام لم يفرض على حرية الفكر قيوداً من خارجها، المهم ألا تنقض الحرية نفسها فتغدو سبيلاً لإثارة النعرات العصبية والعرقية، أو مدخلاً للإثارات الغريزية، أو هدما لأسس المجتمع، ذلك أن الحرية قيمة إنسانية عليا وهي تفقد معناها إذا انفصلت عن قيم الحق والخير والجمال والعدالة. إذ لا حرية لظالم ولا لمجنون (فلا ضرر ولا ضرار)) فلا عدوان إلا على الظالمين)، ذلك أن قيمة الحرية تتجدد بمقدار ما تمنح الحياة من قوة وطمأنينة واستقرار وإيمان وعدل ورقي.
والإنسان ظل يفرض على نفسه مزيدا من القيود لكي ينال مزيدا من الحريات، وفق تعبير (د. فؤاد زكريا في كتابه التفكير العلمي)، وهذا تعبير يبدو متناقضا: إذ كيف تفرض القيود من أجل ضمان الحريات ولكن من السهل أن يُفهم ذلك في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية يفسره، ألا وهو إشارات المرور: فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور، لكي ننال بذلك مزيدا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطُّل إحدى الإشارات، الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطى السائق أو السائر "حرية " السير كما يشاء، يؤدى في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية مما يسببه من تكدُّس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعا: إذ ننتقل من حالة (الحرية) العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يحقق لنا مزيدا من الحرية. والأمثلة التي تثبت أن مفهوم الحرية القديم، بمعنى (الانطلاق بغير قيود)، يخلي مكانه على نحو متزايد لمفهوم آخر هو (التنظيم والتقييد) الذي يؤدى إلى مزيد من الحرية الحقيقية.
ويمكن أن تقارن بين طبيعة ونتائج الحرية بالنسبة لطفل أمامه ورقة وفي يده قلم، ظفر بهما بعد بكاء عنيد، قارنه بفنان أمامه لوحة وألوان وفي يده الفرشاة، فالطفل حر في أن يخط بالقلم ما شاء أن يخطه على الورقة، والفنان حر في إقامة بنائه اللوني على اللوحة، لكن ما أبعد الفرق بين حرية وحرية! لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقة وقلم، فلما بلغ مراده وكان حرا، انطلقت تلك الحرية المجنونة (تشخبط) الخطوط على الورقة بلا هدف، وأما الفنان العارف بأسرار فنه، فقد استطاع بحريته المقيدة بقواعد الفن وأصوله، أن يبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال.
ولذا فإن علينا أن نفهم أن الحرية المطلقة لا وجود لها في الكون في مواقعه التكوينية والعملية ... ولا وجود لها في حياة الناس ... فلا بد من (حدود وضوابط) معينة للحرية تفرض النظام وتمنحه حركته في الاتجاه الصحيح، وفي ظل مثل هكذا حرية لها ضوابطها وحدودها لا مجال لمحاصرة الفكر والسياسة والاجتماع بالقهر والعنف والاضطهاد لأن مثل هذا الحصار لا ينتج ثباتا للفكرة، ولا عمقا في الوعي ولا امتدادا في الموقف.
ومن المهم في فهم بُعدِ الحرية فهم شروط أهلية مزاولة حقوقها، لأن الحرية هي حق وموقف ومسؤولية، مثلها مثل أي حق وموقف لا يمكن مزاولته في حالة من الفراغ أو الفوضى أو الاستهتار، بل هي أحرى من غيرها بالضبط والتنظيم لما لها من أثر خطير في حياة الإنسان ومعنى وجوده. د. عبد الحميد أبو سليمان
ومفهوم بالطبع أنه لما كان الفرد عضوا في مجتمع بحكم الضرورة، وجب أن تتوازن حريات الأفراد بحيث لا تطغى إرادة منها على أخرى، ومن هنا جاءت الشرائع والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها في كل موقف من مواقف الحياة، وكذا القوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها المشتركة.
وهكذا نرى أن فكرة الحرية في أوطاننا، حتى عند أكثر المثقفين، ضاقت حدودها بحيث كادوا يقصرونها على التخلص من قيود الطاغية، بالمعنى السياسي في أغلب الأحيان، وفق توصيف د. زكي نجيب محمود لهم، ومثل هذه النظرة الضيقة تبقيهم في وهمٍ كبير، إذ تجعلهم يتوهمون أنهم قد باتوا أحرارا وما هم في حقيقة أمرهم بأحرار، فلأن يفكوا عن أنفسهم قيود المستبد ـ على اختلاف ضروب الاستبداد ـ لا يعني أنهم قد صاروا أحرارا، بل يعني أنه قد توافرت لهم الظروف التي تمكنهم من أن يكونوا أحرارا لو أرادوا، (لأن الحرية في صميم معناها هي القدرة على العمل في الميدان الذي نريد أن نكون أحرارا فيه)، فالحرية الحقيقية هي محصلة لمعرفة الحر بالمجال الذي يريد أن يكون حرا فيه، ومن هنا يتضح لنا كيف أن الحرية لا تكون مطلقة لأي إنسان، وإنما هي منسوبة دائما لما يكون الحر على علم دقيق به، وكان أفلاطون قد أدرك هذا المعنى للحرية إدراكا واضحا، إذ جعلها صفة تدور مع العلم وجوبا وعدما.
وانفلات الحرية ليس تقدما إلى الإنسانية بل تأخراً إلى البهيمية، لأن الأفعال تمدح بضبطها لا بانفلاتها، فالانفلات لا يحتاج للعقل بل يحتاج لتعطيله. وفي الدول المستبدة، التي تصادر الحريات، يجري تشجيع الحرية الجنسية واللهو، لأنه كلما نقصت الحرية السياسية والاقتصادية تزداد الحرية الجنسية وحرية اللهو، وهو ما تلجأ إليه الحكومات التسلطية، يضاف إلى ذلك حرية أحلام اليقظة التي تقدمها القنوات الفضائية وأجهزة التلفزيون والراديو، ومواقع التواصل الاجتماعي. والالتزام لا يخدش كرامة الحرية، ولكنه يبعثها من منطلقات صحيحة، ويحلها في مكانها اللائق بها، بعيدا عن منحدرات الإسفاف والرذيلة.
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحل الأرض كلها، وحرم خطوات يسيرة منها، والحرية أن يعيش الإنسان في سعة الأرض، لا في ضيق الخطوات، ومن عاش في ضيق خطوات الشيطان، فإنه لا يبصر أن الشيطان سلبه حريته من الأرض الواسعة، ليقيِّد عيشه في خطوات منها. "فالحرية أن تعيش في سعة المشروع، لا في ضيق الممنوع". كما يقول الأستاذ عبد العزيز الطريفي، والحرية أن تصل لحاجتك المشروعة الممنوعة، لا أن تصل لممنوع لا تحتاجه، وكل تحرر من أمر الله هو عبودية لأمر الشيطان، (والإنسان خلق ليطيع فليختر سيده).
إن الحرية الإنسانية لها حدود وقواعد وثوابت تنبع من طبيعة الإنسان وطبيعة مجتمعه، ولا بد من فهمها ومراعاة حدودها، حسب تأكيد د. عبد الحميد أبو سليمان على ذلك. فالإنسان ومجتمعه منظومة مركبة لها قواعدها وثوابتها وحدودها التي يجب مراعاتها وعدم تخطيها.
الحرية - المسؤولية - البناءة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
حرية الفرد تبدأ من حين يبدأ حقه في الحياة، وتنتهي من جميع جهاتها حيث يبدأ حق البارئ المصوِّر، وحق من حوله من الخلق كلا وبعضا. والحرية المنقوصة هي نوع من العبودية، والحرية غير المنضبطة تعني الفوضى، كما تعني العدوان، وتعني في بعض الأحيان تدمير الذات. "والحرية بدون قانون، أو التي لا يعيش الناس في ظلها في سلام ليست حرية حقيقية على الإطلاق، والحرية ـ كذلك ـ ليست مجرد التخلص من الأغلال، ولكن الحرية أن تعيش حياة تحترم فيها حرية الآخرين وتعززها. كما يقول نيلسون مانديلا. إن الإنسان الحر هو النبتة الأولى والأساسية في مجتمع الحرية، ولا حرية بلا إنسان حر. والحرية أن يكون لهذا الإنسان اختيار في الفعل أو عدمه، وهذا عندما تكون بين أمرين إيجابيين، أما عندما يكون الإنسان أمام خطر داهم أو حيوان مفترس، فإن الحرية تدعوه لأمر واحد هو الحفاظ على حياته، وإذا فكر في أمر آخر فذلك يدعو إلى مراجعة الحساب في قدراته العقلية؟!. وبناء على ما سبق، يمكننا القول بنوع من الاطمئنان والقطعية أنه ليس هناك حرية مطلقة، فالحرية المطلقة هي فوضى مطلقة، ولكن القيود المطلقة هي قتل للإنسان في أبعاده الحيوية (روحا وجسدا وطاقة). "وأننا عندما نلغي الطاقة الحيوية للإنسان فإننا نهدم المجتمع، وعندما نحررها تحريراً مطلقاً فإنها تهدم المجتمع. لذلك يجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين". كما ذكر ذلك بوضوح المفكر مالك بن نبي.