على قدم المساواة... رؤية تشخيصية 2- 3
يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi
30/08/2021 القراءات: 1503
والجهل بحقائق الأشياء وتركيبتها، يورث الخلط في مقادير الاستثناءات من أحكام المساواة، ويورث الخلط أيضاً في موضع عدم التساوي ومحله، وهل هو لازم في موضع واحد أو في موضعين أو ثلاثة أو أكثر، وهل يُمكن القياس عليه أم لا؟ فالذي يُريد التساوي بين المعادن لأنها معادن فهذا جاهل بحقائق الفروق بين تركيبها، فالذهب والفضة والنحاس والحديد معادن كل منها له تركيبته، وكذلك الكواكب، فالشمس والقمر والمِرِّيخ كواكب كلٌّ له تركيب وآثار تختلف عن الآخر.
وهذا الرأي الذي أورده الأستاذ عبد العزيز الطريفي في العبارة الآنفة الذكر، قد لا يستسيغه البعض كونه يدعو في ظاهره إلى المفاضلة وعدم التساوي، ولكن العبرة في الغالب ليست بحجم ما يأخذ الإنسان مقارنة بإنسان آخر، ولكن العبرة هنا في كفايته له، فالتساوي هنا إنما يعتبر في الكفاية لا في المقدار، فقد يتساوون في المقدار ويظلمون في الكفاية.
وإذا كانت "المساواة [المُطلقة]" بين العالِم والجاهل، وبين العبقري والغبي، وبين الواعي والغافل، وبين المُجِد والكسول، وبين المتوسط والنحيف، وبين الشاب والرضيع، وبين العجوز والصغير، وبين مطلق المتمايزين في الضرورات والحاجات والاحتياجات بعضِهِم وبعض: مما تأباها "الفطرةُ العادلةُ" و"عدالة الفطرة": فلابد من تأسيس هذا التمايز والتفاوت على "قاعدةٍ عادلةٍ" تتمثل في "إتاحة الفرص المتساوية أمام الجميع لتحصيل القدرات والإمكانات"، ثم ليأخذْ كلُّ واحدٍ بعدَ ذلك ثمرات جهده، مع الحرص على "التوازن والتناسب"، لا "المساواة [المطلقة]" .. فـ"المساواة في الفرص المتكافئة" هي الشرط لعدم دخول التمايز إلى "دائرة الظلم" الذي يأباه الإسلام. كما يؤكد على ذلك د. محمد عمارة
إن "التفاوت/ التمايز الاجتماعي" في نظر الإسلام حقيقةٌ من حقائق الواقع؛ نابعةٌ من تفاوت الحوافز والقدرات والجهد المبذول والذكاء الذي يَستخرج الثمرات ... والإسلامُ لا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهلها، ولا يعاديها، وإنما يهذبها ويضبطها كي تظل في إطار "المشروع" ونطاق "العدل":
- الذي لا يعني "المساواة التامة" و"التماثل المطلق"؛ لأنَّ المساواة في أنقى صورها وأعمق تطبيقاتها لا يمكن أن تتعدى المساواة "في تكافؤ الفرص" و"أمامَ القانون".
وبهذا لا يؤدي التمايز إلى "فاحش المظالم"، ولا تحلم المساواة [الخيالية المصادِمة لحقائق الاجتماع] بـ "إلغاء التمايزات"، وإنما ضبط " التمايزات الطبقية" عند حد "الوسط العدل الحق المتوازن"؛ الذي يُرَشد المسارات؛ تحقيقاً للتكافل والتساند والارتفاق. د. محمد عمارة.
والمساواة الاقتصادية غيرُ ممكنةِ التحقق في أي مجتمع من المجتمعات؛ لأسبابٍ كثيرةٍ، في مقدمتها: اختلاف الاحتياجات، وتمايز الضرورات، [وتباين القدرات والإمكانات، مما يُنتِجُ تباين الثمرات والمكاسب]. فالعدلُ هو "التوازن والتناسب" و"إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه" ... بينما "المساواة [المُطلقة]" هي الظلم والحرمان؛ لأنها "لا تُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه"، وإنما "تُساوِي بين المختلِفين والمتفاوتين". د. يحيى رضا جاد.
إن التوحيد الناظم للقيم يراها باعتبارها وحدة كلية قيمية منظومية، ومن مقتضيات التوحيد والتنزيه والحاكمية، عناصر العدل، والعدل هو عملية تنظيم القيم بلا أدنى عناصر تضارب أو تعارض، إن العدل (كقيمة وكعملية) يحدد عناصر الرؤية لفكرة المساواة على سبيل المثال، ومن العدل الوسط في هذا السياق النظر إلى فكرة المساواة في ضوء سنة الاختلاف وحقيقة التعدد والتنوع، حسب وصف د. سيف الدين عبدالفتاح، والمساواة هنا ليست (مساواة عددية حسابية مطلقة) ترى الأشخاص أو العلاقات في إطار من القوالب، ولكنها تردها إلى الأصل الأصيل في الإنسانية والفطرة ووحدة الخلق وحقائق التسخير وحقائق الاستخلاف والتكليف وأصول التكريم، عناصر تحقق بعد ذلك عناصر السعي التفاضلي في الحركة اليومية والفعلية والحضارية، إنه خط البداية في السعي الحضاري مساواة الخلق والاختلافات في أصل الخلقة من لون أو ما هو في حكمه لا يمكن أن يكون مدخلا لعدم المساواة أو تفضيلها لعنصر، وكذلك الأجناس، أما السعي الحضاري فهو حالة من الكسب والفعل الحضاري الذي يقره العمل الحقيقي والجهد المبذول.
ويجب أن يكون ذلك النمو في إطار الرؤية التوحيدية، فكل جوانب الإٍنسان تعمل في شكل تكاملي حتى وإن كان لكل جانب منها اعتباراته الخاصة إلا أنها تترابط في وحدة مميزة، تساهم في إعطاء معنى للحياة ولا تنفصل فيها الغاية عن الوسيلة، ولا يُقاس فيها الناتج بالعائد الآني دون العائد الآجل. وكذلك فإن الفروق الفردية سواء كانت كمية في أبعادها أو نوعية، فإن هدفها التكامل وليس التفاضل وأن البحث في المساواة على أساس التطابق يلغي هدف الوجود ويجعل الأفراد نسخاً مكررة تنعدم معها الغاية من وجودها.
والاستبداد يقضي على المساواة، ويعطل تكافؤ الفرص، الذي يشكل ميدان التنافس والتحاور والتثاقف والتفاكر والتقدم... ويعتمد السواعد الباطشة، ويطارد العقول والخبرات البانية، ويسعى إلى تحكيم السفهاء والسوقة والانتهازيين برقاب العلماء والخبراء المتميزين، ويقدم أهل الولاء الفاشلين على أهل العلم والخبرة الفاعلين، ويفوته أن (من لا خبرة لهم لا ثقة بهم) على المدى البعيد.
ولمبدأ الرد إلى الله والرسول الذي يفهم من قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول. ...) مدلولان: مدلول (مرجعي) وهو أن الكتاب والسنة هما المصدر في حل التنازع، ومدلول (دستوري) وهو المساواة بين الحاكم والمحكوم أمام القانون، وهو مرادف لمفاهيم "حكم القانون" و"المساواة أمام القانون" في الاصطلاح الدستوري المعاصر. ومن غير هذه المساواة يُذعن الحقُ للقوة، وتضيع كل القيم السياسية، ويجعل الطغاة إرادتهم قانونا.
المساواة - العدالة - رؤية تشخيصية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع