مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


سلسلة: كيف تُبنى الأوطان؟ - أولاً بالعلم -

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


12/02/2025 القراءات: 7  


سلسلة: كيف تُبنى الأوطان؟ - أولاً بالعلم -
الأوطان هي مراتع الصبا، وملاعب الشباب، وملتقى الأقارب والأصدقاء والأحباب، فحبها مغروس في النفوس، ولو كانت في أعين غير أهلها فقيرة إلا أنها عند أصحابها أجمل بقاع الدنيا، ومفارقة الأوطان مصيبة، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخرجه المشركون من مكة، وقف يلقي عليها نظرة الوداع، ثم قال: (واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ؛ ما خَرَجْتُ) [رواه الترمذي].
إن الأوطان لا تبنى بالشعارات، ولا تبنى على قواعد العنصرية والطائفية، بل على المحبة والتعايش والحضارة والانفتاح، ومسؤولية الأوطان ليست على الحكومات فقط بل للأفراد أيضاً، ولا شك أن بناء الأوطان وقيامها وازدهارها وتبوأها مكانة بين البلدان ليس بأمر هين، ولا هو شيء يقوم بين عشية وضحاها، وإنما جهود تبذل، ودماء تراق، وأموال تنفق، وعلم وتخطيط، مع سلامة قصد، وصدق نية، وعلو همة.
أهم أسس بناء الدولة:
أولاً: العلم: وهو السلاح الأول في بناء المجتمعات بل والحضارات، وليس للمجتمع حاجةٌ إلى شيء أقوى من حاجته للعلمِ والتعلم والتعليم، فبالعلم يكتشفُ الإنسانُ أسرارَ الكونِ ونواميسَه، ويسخرُها لخدمةِ نفسِه ومجتمعه، وبالعلم تُصنُعُ الحياةُ الكريمة الراقية، ويقضَى على الأميةِ والجهل والفقرِ والجوع والمرض.
فهناك علاقة مطردة بين تقدم الأمم وازدهارها وسبقها في مجال العلوم، فكلما وُجد العلم واحترام العلماء، وجد التقدم في كل المجالات والحضارة، والواقع يشهد بذلك والتاريخ يصدقه.
قال تعالى مبينًا ركنا عظيمًا من أركان الملك الرشيد: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وجاءت (عِلْمًا) نكرة لتشمل كل العلوم؛ علم اللغات وعلم الصناعة، قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] أي: علم الله تعالى نبيه داود عليه السلام صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألانَ اللهُ تعالى له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ{ [الأنبياء: 80]؛ أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس.
ومن مظاهر التقدم والحضارة التي وصل إليها ملك سيدنا سليمان عليه السلام باستخدام العلم، ما أبهر مملكة سبأ! {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44] وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء، فلما رأته ظنته ماءً تتردَّد أمواجه، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صافٍ والماء تحته، فأدركت عظمة ملك سليمان {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] وكان سليمان عليه السلام قد بنى هذا الصرح، وجعل بلاطه من زجاج نقيّ صافٍ كالبلُّور بحيث يرى الناظر ما يجري تحته من ماء.
بالعلم والمال يبني الناس ملكَهُم لا يُبنى ملكٌ على جهلٍ وإقلال
لا بد من نشر العلم وبيان مكانته حتى تعود الأمة إلى عزتها وتقدمها، وتدبَّر قول الله تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام مبينًا مكانة العلم والحرص عليه: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].
وأول ما نزل من القرآن الكريم: {اقْرَأْ} أي: تعَلَّمْ.
وليس المقصودُ بالعلمِ؛ العلمَ الشرعي الديني فقط، وإنما كلُّ علمٍ نافعٍ مفيدٍ يسهمُ في التقدمِ الحضاري والإثراءِ المعرفي، ويقوي ويعزز قدرةَ المجتمع؛ سواء كان من العلوم الدينية أو العلوم المادية التجريبية كالطب والهندسة والاقتصاد والتجارة، أو العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد جعل الله تعالى اكتساب هذه العلوم من الواجبات الكفائية التي تطالب الأمة بها في مجموعها.
وكما هناك دورٌ للأسرة التي هي الأساس الأول في تنشئة العلماء من خلال دور الأم والأب والزوجة، هناك دور الدولة التي تجعل من اختراعات واكتشافات العلماء واقعًا ملموسًا، وتجعل للعلماء قيمةً عاليةً في بلادهم.
فلا بد من نشر العلم وبيان مكانته حتى تعود الأمة إلى عزتها وتقدمها، فقد ظلت الأمة الإسلامية قرونًا عديدة تقود البشرية نحو التمدُّن والرُّقي متسلِّحةً بالعلم.
ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤال الاستزادة من العلم، وتعوَّذ عليه الصلاة والسلام من علم لا ينفع فقال: (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ) [رواه مسلم]، فبالعلم نزرع ما نأكل، ونصنع ما نلبس، وننتج دواءنا وسلاحنا وحاجاتنا، وإلا ظللنا عالةً على غيرنا محتاجين إليهم، نئنُّ من وطأتهم، ونعيشُ تحت رحمتهم.
العلمُ يرفعُ بيتا لا عمادَ له والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِّ والكرم


بناء الأوطان، العلم، بلاد الله، الحضارات، القلم، اقرأ


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع