هل الطبع يغلب التطبع فعلا؟
يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi
02/07/2021 القراءات: 1960
بداية يجب علينا أن نتشبَّع بفكرة تقول: إن تغيير العادات أمر ممكن، على خلاف ما هو شائع بين الناس من أن الطبع تحت الروح، ولا يزول إلا بخروج الروح.
وفكرة الطبع والتطبُّع هي تجربة خاضها المفكر الجزائري (مالك بن نبي) مع طلبته الجزائريين المهاجرين في فرنسا، ولْنتركه يحدثنا عن هذه التجربة: "عند أول لقاء لي بتلاميذي في مرسيليا، أدهشتني الهيئة (الوحشية) التي كانت تَسِمُ نظراتهم، وتطبع قسمات وجوههم. ثم لاحظت أن نظراتهم تهذبت، واكتسبت طابعاً إنسانياً، تتجلى الفكرة من خلالها (بعد فترة من التربية والتعليم). والأكثر تأثيراً، أن الطلعة ذاتها تغيّرت، ولن يسعفني الوقت لتسجيل كل تفاصيل التحول الجذري لدى تلاميذي، بيد أني فهمت من وقتها أن الفكر يضع قناعاً خاصاً على الوجه". إن الأخلاق ترتسم في النفس على صورة السجية والفطرة والطبع في الإنسان؛ لذا فإنها تتسم بطابع الديمومة والاستمرار، ويصبح تغييرها أو الفكاك منها من الصعوبة بمكان، ولكن ذلك ليس مستحيلا إذا وجدت النية والإصرار، فالعلم بالتعلّم، والحلم بالتحلّم، والعادة والطبع المتحكم يمكن الخلاص منه بالتطبّع على سلوك مغاير، وإن كان ذلك ليس بالأمر الهين.
"ونحن نكرر الدعاء لأنفسنا، كما نكرر غسل أعضائنا؛ لأن أسباب هذا التكرار قائمة، فالجسم الإنساني لا يكفي في تطهيره أن يغسل مرة أو مرتين، لا بد من تكرار الغسل مدى الحياة! والطبع البشرى لا تصقله دعوة أو دعوتان لا بد من تكرار الوقوف بين يدي الله؛ لأن رعونات النفس ووساوس الشيطان لا تنتهي، فلا بد من تكرار الدعاء، واستدامة التضرع". (الشيخ محمد الغزالي). وكلام الشيخ الغزالي يشير إلى أهمية الاستمرار والمداومة، فالعادة والطبع السابق تكوّنت نتيجة المداومة والاستمرار، والخروج من بوتقة العادة والطبع السابق يحتاج إلى مثل هذه الديمومة والإصرار، فالحال مع أنفسنا وطباعنا يشبه الحال مع أجسامنا، إن لم نهتم بمداومة تطهيره تراكمت عليه الأوساخ، وعندها تصبح كلفة تنظيفه وتطهيره باهظة، والذنوب هنا هي أوساخ الروح، كما أن العادات والطباع السيئة هي أوساخ النفس، والله سبحانه وتعالى (يحب التوابين ويحب المتطهرين).
والتدين الحق يخفف من النزعات الشريرة داخل الإنسان، ويدعم نوازع الخير ويزكيها. والإسلام لا يؤكد على تغيير الطباع السيئة بمقدار تأكيده على الحيلولة دون تجسيدها في عادات المرء وسلوكياته وأنشطته وطباعه، وهذا يشبه في أحد الوجوه ما يقوله علماء التزكية: " أن ترك الذنب أفضل من طلب المغفرة".
والطبع عند علماء النفس هو: مجموعة مظاهر الشعور والسلوك المكتسبة والموروثة التي تميز فرداً عن آخر. يقول أبو حامد الغزالي: "كل إنسان قادر بالميلاد، والتربية تجعله قادراً بالفعل". والنفس اللوامة كما في المصطلح القرآني هي: النفس التي أصبح لها هذا الأمر خُلقاً وعادة، وطبعاً تطبعت عليه. أجل إن من طبيعة الإنسان أن يكون حراً، وأنه يريد أن يكون كذلك، ولكن من طبيعته أيضاً أنه يتطبَّع بما نشأ عليه. ولهذا فإن الإنسان ليس اجتماعياً بالطبع كما قال أرسطو. إنما هو في الواقع اجتماعي وغير اجتماعي في آن واحد، إنه يملك في شخصيته عنصر الخضوع وعنصر الثورة معاً، فهو يخضع لقواعد مجتمعه بإحدى نَفْسَيه، ويتمرد عليها بالنفس الأخرى.
لقد خلق الله في الإنسان استعداداً للصلاح واستعداداً للفساد، كما يؤكد على ذلك (عبد الرحمن الكواكبي)، فأبواه يُصلحانه، وأبواه يُفسدانه، أي إن التربية تربو باستعداده جسماً ونفساً وعقلاً، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فالمستبدّ: إنسان مستعد بالطبع للشر وبالإلجاء للخير، فعلى الرعية أن تعرف ما هو الخير وما هو الشر فتُلجئ حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفي للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلاً. ومن المعلوم أن مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شر الاستبداد.
إن الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري فإنه يطلب الهبوط. (ابن الجوزي)، وبناء عليه فهل يمكننا أن نتفق مع ما ذكره (د. علي الوردي) من أن: "الإنسان وحشي بالطبع ومدني بالتطبع"؟
إن التربية (التطبيع) ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس؛ ليتمكن الإنسان من الخروج من حالة التوحش التي ذكرها (د. علي الوردي) إلى رحاب الإنسانية، وأهم أصول هذه التربية (التطبيع) كما يقول الكواكبي هي "وجود المربين، وأهم فروعها وجود الدين. وجعلت الدين فرعاً لا أصلاً؛ لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقروناً بالتمرين".
والعاقل مَن يحمل مَن يربيه على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته للجهال والسفهاء، فإن (الطبع لصّ). والعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن (الطبع يسرق من المخالطة). (ابن الجوزي).
إن التربية هي مفتاح التغيير، وإن تجريد مناهج التعليم من عنصر التربية، كما يقول (أنس كاريتش) في مقال له بمجلة حراء بعنوان (التربية والتعليم معاً)، قد أوصلتنا إلى معرفة متحللة من المسؤولية إلى حد الوقاحة والغطرسة. فالإنسان المتعلم وغير المسؤول، ذو الطبيعة المجردة من التربية، والمتسلح بالتعليم المنفلت من أية مسؤولية، ليمثل خطراً أكبر بكثير من اندفاع تلك الطبيعة عند (بربري) غير متعلم.
لقد تحدث (جلال الدين الرومي) عن الإنسان المتعلم وفاقد التربية، وكيف أنه يستفيد من عقله تماماً كما يستفيد اللص من الشمعة وهو يسرق.
وعندما يتعلق الأمر بالتربية والتعليم، فإن السؤال الرئيسي الذي سنبحث عن إجابة له في القرن الحادي والعشرين هو: كيف التوصل إلى التعليم المربِّي، وكيف نحقق التربية المتعلِّمة؟ والبشرية التي تنجح في التوصل إلى هذه التركيبة ستكون هي البشرية السعيدة.
إن هناك ثلاث قضايا في التربية لا بد من توافرها إن أردنا لها النجاح والفلاح: الأولى: شمولها وإيجابيتها منهجاً، والثانية: انفتاحها وعمومها إطاراً، والثالثة: حريتها ومرونتها فلسفةً.
وإنني في الأخير لأتفق مع ما قاله المفكر السوداني (حسن الترابي): "من أن البشر لن يتجردوا من أهواء التنافس الشخصي، مهما زكَّتهم التربية الدينية، حتى يطوي الله بساط الابتلاء
الطبع، التطبع، التربية.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة